في قصة الكاتب مروان ياسين الدليمي المعنونة ب "ممنوع التصوير"، والمنشورة في مجلة فن السرد بتاريخ 22 يوليو 2025، نذهب إلى التوثيق، الذاكرة، والعين التي لا تُطفأ.
لم يكن شاهداً فحسب. كان هو الصفحة التي سقط عليها الغبار، الصورة التي أفلتت من الحرق، الصمت الذي لم يُمحَ من الأرشيف. لم يحمل كاميرا، بل حمل مدينةً كاملة في عينيه، كلما رمش، نفض عنها الرماد. وكلما نظر، ارتجف المنع.
هكذا يمكن تلخيص جوهر هذا النصّ القصصي القصير والمكثّف، الذي يتكئ على واحدة من أبسط تقنيات القصّ: التوتر الكامن في الصمت؛ لا حوارات طويلة، لا مشاهد صاخبة، بل عجوز صامت في المقعد الخلفي لسيارة أجرة، وجندي يصرخ من جانب الطريق.
لكن ما بين الصمت والصوت، ينبثق العُمق. فالنصّ يشتغل بمهارة على ما يمكن تسميته بـ "الدراما الداخلية للشاهد"، حيث لا يُبنى التوتر على الحدث، بل على ما يتراكم خلفه من ذاكرة وصورة وألم مؤجّل.
"لم يكن ثمة كاميرا. ولا هاتف مرفوع. لكن العجوز كان يحمل عينيه."
بهذه الجملة المفصلية، يُفجّر الكاتب ثيمة القصة المركزية: الذاكرة بوصفها تهمة. والرؤية بوصفها جريمة. إذ يكفي أن تكون قادراً على التذكّر، على حمل الصور القديمة في الرأس، كي تصبح "خطراً" في مدينة تعلّمت أن تنسى كي تعيش، أو أُجبرت على ذلك.
الذاكرة حين تُصبح تهمة
في مدينة لم تُرمَّم بعد، لا بالمادة ولا بالمعنى، يركب العجوز بصمت، يحدّق من زجاج مترب كأنه نافذة مؤجّلة على الجحيم. لا شيء في يده سوى النظرة. لكنها كافية لتستفز السلطة. ليس لأن فيها تمرّداً ظاهرياً، بل لأنها تشهد. لأنها تحتفظ بما ينبغي أن يُنسى. في لحظة التوتر، لا يحتاج الجندي إلى دليل، لأن العين وحدها تحمل الإدانة.
هنا يظهر العنصر الثاني في النص القصصي: الاسترجاع الذهني بوصفه أداة سردٍ. فبينما يعلو صوت الجندي، ينفتح عقل العجوز على مشهد قديم، طفل يلتقط منشوراً، أخ يرتجف، واختفاء مفاجئ يعقبه تعليق جسد على جسر. كل هذا في ومضة. كأن ذاكرة المدينة نفسها تستيقظ داخله. كأن ماضيها لم يرحل، بل ينتظر نظرةً واحدة كي يعود.
من التوثيق البصري إلى الأرشيف البشري
"نحن نريد أن نُوثّق. أن نُبقي الذاكرة حيّة. هذه مدينتنا، وهذا ركامها."
هكذا يردّ العجوز، لا ببطولة خطابية، بل بهدوء مشبع بما يشبه الخيبة الشريفة. في هذا الحوار القصير، يظهر عنصر ثالث مهم في البناء القصصي: الاقتصاد في اللغة. إذ لا شيء فائض هنا. كل جملة مثقلة بمعناها، وكل صمت مسنود بشحنة باطنية. لا وصف مجاني، ولا زينة بلاغية. فقط العيون تتكلم.
وفي هذا المشهد تحديدًا، تنقلب المعادلة: لم تعد الكاميرا هي العدو. بل الوعي. لم تعد الصورة في الهاتف، بل في العين. الصورة التي لا تُمسح، ولا تُصادَر، ولا تُستبدل بجهاز آخر. لذلك، فإن من يرى، في مثل هذه المدن، يصبح هو الأرشيف. هو العار. هو التهديد.
حين تُصبح النظرة حفراً في الجدار
تتحرّك السيارة، لكن النص لا يغادر مكانه الحقيقي: في داخل الرجل، حيث لا تزال الصور تتوالد، لا بفعل الخيال، بل بفعل الذاكرة النازفة. هنا نلمس العنصر الرابع في البناء الفني للنص: التماثل بين الداخل والخارج. الحفر على الطريق تُكافئ الحفر في القلب، والركام في المدينة يُعيد ركام السنوات إلى الوعي، وصوت الجندي يختلط بأصوات الماضي: "ارمِ الورقة"، "أخفض عينيك"، "ممنوع التصوير".
كل شيء يعود
لكن هذه العودة ليست خيالاً. إنها وثيقة غير مكتوبة. وهنا يصل النص إلى ذروته النفسية: العجوز لم يعد مجرد راوٍ. لم يعد حتى شخصية. لقد أصبح هو ذاته الصورة الأخيرة التي بقيت، بعد أن مُنع كل شيء. لأن من يرى… لا يُغفر له في مدنٍ خُرّبت ثم أُعيد إعمارها على أنقاض النسيان، يصبح من رأى شاهداً غير مرغوب فيه. لأن من يحمل عينيه – مجرد عينيه – يُصبح شاهداً لا يمكن التحكّم به. ومن هنا، يصبح المنع الحقيقي ليس منع التصوير، بل منع التذكّر. ليس مصادرة الأدوات، بل محاولة إطفاء العين.
لكن العين التي عاينت، والتي نجت، والتي ما تزال ترى، لا تُطفأ.
ولذلك… فهي ممنوعة.
مجلة فن السرد | قراءات ودراسات
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا