كان العجوز يجلس في المقعد الخلفي من سيارة التاكسي، يحدّق بصمتٍ من خلف الزجاج المترب، بينما تدحرجت المدينة أمام عينيه كما لو أنها شريط قديم احترق في أطرافه، ولم يبقَ منه إلا رمادُ صورٍ وذكريات.
الوقت كان غائماً، رغم وهج شمس المغيب التي اخترقت الحطام بعناد، كأنها تسعى إلى إيقاظ الموتى أو إثارة وجع الأحياء.
الصمت يسكن السيارة، إلا من خربشات العجلات على الحفر، وتهشّم أنفاس السائق الشاب، الذي بدا عليه التوتر. طوال الطريق، لم يكن العجوز يسمع إلا صدىً داخلياً، صوراً متلاحقة عجنتها ذاكرته بعجلات السيارة، وجعلت من كل حفرة ضربة سيف، ومن كل ركام جثةَ حكاية.
ثم نبح الصوت.
ليس صوت السائق، بل آخر، جاء من نافذة الطريق كطلقة، مزّق سكون العجوز كما لو أنه استيقظ فجأة من نوم طويل على سرير مقبرة.
كان الجندي، واقفاً بثقله كاملاً على الإسفلت، جسده محمولاً على خوذة وأوامر وريبة، يصرخ:
"ممنوع التصوير."
لم يكن ثمة كاميرا. ولا هاتف مرفوع. لكن العجوز كان يحمل عينيه.
لحظتها، ارتجّت داخله سخرية لاذعة، لم تنبس شفتيه بها، لكن مذاقها كان مُرّاً في حلقه كما لو أنها قيء عمر كامل. لم يُجبه مباشرة. كل ما فعله أنه تذكر، دون إرادة، ذلك الطفل – صورة قديمة التقطها العقل حين كانت الموصل ما تزال تحت وطأة دولة الخلافة، والسماء تتقيأ منشورات، والأرض تُدفن تحت الأقدام.
طفل.
منشور.
ضحكة بريئة في الهواء.
أخٌ شاب، وجهه يذوب من الذعر، يطلب من الطفل أن يرمي الورقة.
لكن الطفل خبّأها في جيبه كما يُخبئ الأطفال الحلوى.
وبينما كانت عيون الناس تُخفض، كانت عيون عناصر"الحَسبة" تلمع ، تراقب ، تحصي الأنفاس.
وفي غضون دقائق، كان الشقيقان قد اختفيا. وفي صباح آخر، عُلّق جسد الشاب على سياج الجسر العتيق .
الطفل ؟ لا أحد يعرف.
صورة واحدة، التقطتها ذاكرة المدينة. ممنوعة.
وعاد العجوز إلى الواقع ، حيث صوت الجندي يخترق الزجاج من جديد، نبرة متسلطة تعبق بالخوف لا بالقوة:
"أنت رجل كبير… ألا تستحي من شيباتك ؟ كيف تلتقط صوراً؟"
الشيبات ؟ هل يعني ذلك أنه لم يعد ينتمي إلى فئة يمكنها أن تُغفر لها الأسئلة؟
مال العجوز للأمام، خاطب الجندي بنبرة هادئة، لكنها كسكين يُغمد في صدر العجز:
"أين الخطأ ؟ نحن نريد أن نُوثّق. أن نُبقي الذاكرة حيّة. هذه مدينتنا، وهذا ركامها" .
تغيّرت ملامح الجندي قليلاً، كما لو أنه واجه جداراً لم يكن يتوقعه، أو أنه رأى في العجوز شيئاً آخر: صحفي، جاسوس، شاهد ؟ لم يكن مهماً.
ما كان واضحاً أن الجندي أراد إنهاء اللحظة. فالتفت إلى السائق، وقال بحدة:
"تَحرّك بسرعة، وإلا سأحجز السيارة."
انطلقت العجلات من جديد، تدور فوق الحفر كما تدور فوق الجثث القديمة. أما العجوز، فقد عاد إلى الصمت. لكن الصور لم تتوقف. لأن من يحمل ذاكرة المدينة لا يحتاج إلى كاميرا.
هو نفسه ممنوع.
هو نفسه صورة.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا