( 1 ) – الفراغ الأول
كل شيء بدأ في زمن لم يعد واضحًا.
رقم على التقويم، يوم في نشرة الأخبار، اسم في تقرير قديم، ثم اختفى. هكذا ببساطة.
اسمه: محمود علي.
رجل من ضواحي المدينة التي انهارت يوم دخلها الج.يش الأمير. كي وخرجت منها الوجوه، ليس كما كانت، بل كما لم يُرِد أحد أن يراها.
آخر مرة شوهد فيها، كان يقف عند زاوية الشارع، سيجارة نصف محترقة في يده، يتحدث بهاتف لم يعد يرن منذ ذلك اليوم.
أكثر من عشرين عامًا مضت.
هذا الرقم – عشرون – لا يعني شيئًا عندما تفقد القدرة على حساب الأيام. الزمن توقّف، أو تحوّل إلى حلقة مفرغة تعيد المشهد نفسه بصورٍ مختلفة: وجهه على جدار قديم، اسمه في ملف مغلق، ذاكرته في رأس امرأة ما زالت تؤمن بأن الجدران تتكلم.
زوجته لم ترَ جثته.
لم تسمع نعيه.
لم تتلقَّ مكالمة من جهة رسمية.
كل ما لديها: فراغ.
غرفة نوم باردة، وسادة لم يبرد ظلها، وهاتف محمول ما زال يحتفظ برقمه.
الابن كبر. الابنة تزوّجت. الأحفاد لا يعرفون الاسم. والأمل... يتحوّل مع الوقت إلى عاهة في الذاكرة.
(2 ) – الابن
لا أعرف إن كنت أحبه… أم أني أحب صورته. أقول لنفسي: هذا هو. هذا هو الرجل الذي سمّيتُ باسمه. لكن ماذا يعني أن تحمل اسم شخص لم تتحدث إليه قط ؟ لم أقل له صباح الخير. لم يسألني: كيف كان يومك ؟ كل ما بيننا صورة، بالكاد أظهر فيها.
كان عمري أربع سنوات حين اختفى. أربع سنوات ليست ذاكرة. إنها مجرد نقطة في أرشيف الآخرين.
أحيانًا أرى نفسي أُشبهه. في طريقة وقوفي. في شكل جبهتي. في نظرة عين واحدة فقط، العين التي ترث الألم ولا تبوح به. لكنّي لا أعرف إن كان هذا صحيحًا… أم أني فقط أبحث عن بقايا.
أحاول أن أكونه، لأفهمه.
أرتدي قميصًا قديمًا عثرت عليه في خزانة أمي، أضع ساعته التي توقفت عقاربها في اليوم نفسه الذي غاب فيه، وأقف أمام المرآة، لا لأتأكد من شكلي، بل لأتأكد أنه كان حقيقيًا.
كل ما أذكره… أنني كنتُ أنام وهو يهمس لي. أو ربما كان هذا صوت أمي. أحيانًا أخلط بينهما.
يقولون إنه اختُطف.
يقولون ربما مات.
لكن أحدًا لا يستطيع أن يكتب الجملة الأخيرة. أنا أعيش مع نهايات ناقصة. كل شيء في حياتي جملة لم تنتهِ.
( 3 ) – ارتباك الذاكرة
في الليل، حين تهدأ الأصوات، وتُغلق النوافذ، هناك دائمًا من يتخيله يفتح الباب، يدخل بهدوء، ويقول: "تأخرت قليلًا، لكنني هنا." ثم لا يحدث ذلك أبدًا.
الحياة مستمرة ؟ نعم . لكنها تمشي بقدم واحدة، وتحمل في الأخرى وزن الغياب.
الرسائل المتضاربة، الأخبار التي تأتي متأخرة، الوجوه التي ظهرت ثم اختفت، كلها لم تفعل سوى أن عمّقت الحيرة، وزادت من جوع الأسئلة.
باتوا يقولون: "ربما استُشهد"، كما يقول الحالم لنفسه إن الحلم انتهى، لكنه لا يصحو. فالميت، مهما عظُم حزنه، يُودَّع. أما من غاب، فلا يمكن وداعه، ولا يمكن استرجاعه.
هو سؤال معلّق، كالجملة التي لم تُكمَل، كالموسيقى التي توقفت فجأة، ولم يُعرف هل تعطّلت الآلة أم اختنق العازف.
( 4 ) – الزوجة
لم أعد أعرف هل أبحث عنه… أم أهرب منه. محمود. اسمه فقط يملأ البيت، رغم أنه لم يعُد. كل يوم أستيقظ قبله. ثم أتذكر أنه ليس هنا. لم يكن هنا البارحة. ولا في الليلة التي قبلها. ولا في السنوات الكثيرة التي سبقت.
الحي تغيّر. الجيران تغيّروا. وجهي في المرآة تغيّر. كل شيء عدا انتظاري. ما زال كما هو. يمشي خلفي كظل، يجلس قبالتي على مائدة لا آكل عليها.
يقولون: يجب أن تتجاوزي.
لكنهم لا يعرفون أني لم أبدأ أصلًا. كيف تتجاوز شيئًا لا تعرفه ؟
لم أدفنه.
لم أره ميتًا.
أراه فقط في الحلم، يلوّح لي، ثم يستدير دون أن يتكلّم.
كان يحب قراءة الصحف في الصباح. أعدّ له القهوة أحيانًا، وأضعها على الطاولة… ثم أنظر إلى الكوب وأقول: مجنونة. لكن الجنون هنا أرحم من اليقين.
سألني ابنه ذات مرة: أمي، هل مات؟
فكّرت طويلًا.
ثم قلت له: لا أعرف.
ولم أقل شيئًا بعدها. هو لم يسأل مرة أخرى. وأنا لم أجب مرة واحدة.
أخشى أن يعود . نعم، أخشى ذلك. لأنني لا أعرف من سأكون حينها. أنا لم أعد كما كنتِ يوم اختفى. المرأة التي كانت تنتظره… ماتت.
(5 )– حياة أقل من حياة
غياب من تحب ليس موتًا. بل حياةٌ من دون ضفاف. حياةٌ معلّقة في دهليز الشك، تفتح كلّ الأبواب إلا باب النهاية.
حين لا يُمنح الجرح اسمًا نهائيًّا، يصبح أكثر عمقًا، أكثر نخرًا، أكثر توحّشًا. إنه هنا، دائمًا هنا . ليس لأنه ما يزال يتنفّس ، بل لأن الغياب لم يُعلن موته رسميًا.
هو حيّ في الشك.
حيّ في تلك الرغبة العميقة أن يعود كلّ شيء كما كان . رغم علم الجميع أن لا شيء يعود كما كان.
وهكذا،
لا تستمر الحياة بفعل الزمن، بل بفعل الحنين،
ذلك الكائن الذي لا يكبر،
لا يهدأ،
ولا يموت.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا