اللّغة في رواية "برلتراس" لنصر سامي | مديحة جمال

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

تونس مجلة فن السرد

مجلة فن السرد
بقلم الكاتبة والناقدة، رئيسة قسم اللغة العربية بالمدرسة الكندية بتونس مديحة جمال


منذ أن تقع عيناك على عنوان رواية الكاتب التّونسي نصر سامي الجديدة "برلتراس"، حتّى تدرك بأنّك أمام رواية ستقلقك وتدفعك إلى التّفكير والتّأمّل.

اللّغة شرط لإنسانيّة الإنسان:

"برلتراس" عنوان مربك،  تبحث عن معناه في معاجم اللّغة فلا تجده، لقد نحت نصر سامي كلمة جديدة في اللّغة مستثمرا إيقاع اللّهجة. لذلك يجب أن تسلك طرقات وعرة حتّى تصل إلى معناها في الصفحة عدد 68 والّذي يأتي على لسان أمجد، أحد شخصيّات الرّواية " أصلها في العربيّة برّ الأطراس، والطّرس هو الصّحيفة، وجمعها صحائف. برلتراس، يا صديقي، هي برّ الصحائف القديمة."

إنّ هذا الكشف يحيلنا مباشرة إلى التّفكير في وظيفة اللّغة في عصر فلسفة النهايات الثّلاث: نهاية التّاريخ، نهاية الإله، نهاية الإنسان.

 يعبّر الكاتب عن تفكيره في وظيفة اللّغة صراحة في الصّفحة 79 حين قال على لسان الرّاوي: " أمّا اللّغة فإنّها...ولم أجد الفكرة."

لقد طرح نصر سامي وبقوّة في روايته قضيّة الإنسان واللّغة، ولعلّ السّؤال المركزي الذي تطرحه هذه الرّواية حول هذه القضيّة هو: هل اللّغة ميزة مشتركة بين الإنسان والحيوان؟ أم هي شرط إنسانيّة الإنسان؟

اعتبر الفيلسوف والإبستمولوجي الفرنسي غوسدروف Georges Gusdorf انطلاقا من التّجربة العلميّة الشّهيرة " الطّفل والقرد"، أنّ الإنسان والحيوان متساويان في مستوى التّعبيرات، ولكن بمجرّد أن ينطق الطّفل أوّل كلمة يدخل عالم الإنسانيّة ويبقى القرد حبيس الحياة البيولوجيّة.

وفي تجربة معاكسة في رواية "برلتراس"، بمجرد تحول الإنسان إلى حيوان يفقد تدريجيا_مع فقدانه للّغة_ انسانيّته؛ "فالمتحوّلون الجدد أخذوا أسوأ أوصاف الحيوان، وأردأ طباعه. وانحلّت العرى بين ماضيهم البشري وحاضرهم، حتّى انهار كلّ شيء." فهُم " أحصنة حقيقيّة، عدوانيّة، برّيّة، لا تلتزم بقانون معروف، وهم عبيد لرغباتهم الحيوانيّة. انتهاكيّون، اقتحاميّون، مرضى."

وتذهب بنا مسألة اللّغة في هذه الرّواية، إلى ما ذهب إليه عالم اللّغة الفرنسي بنفنيست Émile Benveniste الّذي استند إلى نتائج علم الحيوانات (zoologie) من ناحية وعلى السّيميولوجيا (sémiologie) واعتبر أنّ اللّغة هي فيصل التّفرقة بين الحيوانيّة والإنسانيّة، إذ "يتشكّل الإنسان من حيث هو ذات في اللّغة وباللّغة، إذ هي وحدها التي تؤسّس حقيقة الأمر، مفهوم الأنا ضمن واقعها الّذي هو واقع الوجود".

فالقصائد التي كان يرويها أمجد على الرّاوي ليدوّنها هي التي أعادت له الحياة وجعلته ينجو بطريقة ما من التّحوّل " بدأت أورق مثل شجرة البرقوق على شرفة بيتي القديم في بلادي، كانت الأبيات ناضجة، مثل حبيبات البرقوق، وكنت جائعا. شممت، وأنا أكتب ما رواه لي أمجد، رائحة النّعناع المحتحت بين الأصابع، وامتلأ قلبي بالصّفاء."

اللّغة في مواجهة النّهايات الثّلاث:

- اللّغة في مواجهة موت الإنسان:

تنتمي رواية "برلتراس " إلى أدب المدينة الفاسدة أو ما نعبّر عنه بالديستوبييا: فالمجتمع فيها هو مجتمع خياليّ فاسد ومرعب يحكمه الشّرّ المطلق.

في برلتراس لا تشرق الشّمس أبدا، إذ "نسي من بقي من النّاس الشّمس" وفي المقابل استمرّ اللّيل فيها "يفرّخ البؤس والحكايات".

في برلتراس عاش الرّاوي محنة التّشبّث بالإنسانيّة في مدينة غرقت في السّواد، حين نسي أهلها صحفهم القديمة وتجرّدوا من إنسانيّتهم بتحوّلهم إلى حيوانات أو إلى مسوخ أو إلى مترمّدين. هذا الانحطاط الكارثي للإنساني فسّره أمجد بانتهاء فعل الرّواية وهو يتحسّر على الماضي قائلا " في الماضي كان هناك أناس يروون، وكان هنالك ما يروى". وفي قراءة معاكسة لتفسيره فهو يقدّم لنا اللّغة كالمنقذ الوحيد للإنسان.

 الحبّ في برلتراس لم يكن خلاصا بل إنّ كلّ قصص الحبّ في هذه الرّواية هي قصص تولد بسرعة وتنتهي بسرعة، تنتهي بالقتل ؛ مثلا عن نهاية علاقته مع سهى يقول الرّاوي: "أعطتني بمحبّة وكانت تعرف أنّني أخبّئ أمرا ...جررتها إلى السّرداب القديم وملأته بالحطب، وأح.رقتها حيّة." وهو ما دفعه إلى التّساؤل " لماذا نسيت في لحظات بأننّي بشر، يتدفّق في دواخله المظلمة ماء الأبديّات المضيء؟"

- اللّغة في مواجهة موت الإله:

 كان من تبقّى من المترمّدين في برلتراس يدعو اللّه باعتباره طيّبا ومصدرا للخلاص في أن يأخذه إليه، إلى أن أمطرت سماء برلتراس أعضاء مبتورة ودماء وصار الق.تل يتحرّك فيها ويفتك بكلّ من تشبّث بالقليل من إنسانيّته. وهذا " أمر لوّث عندهم يقينياتهم في أنّ الغيب طاهر وخيّر وصارت السّماء بدورها سجنا في يد " سجّان دمويّ مجنون".

إنّ فكرة موت الإله تحيلنا مباشرة إلى فلسفة نيتشه الّذي قال " لقد مات الإله ونريد أن يحيا الإنسان المتفوّق" ذلك الإنسان في برلتراس الّذي لا خلاص له إلّا في ذاته وانتصاره للحرّيّة وتشبّثه باللّغة.

 إن الغاية من موت الإله عند نيتشه هو اكتشاف الجانب البطولي في الإنسان، ومن معانيه: التخلّص من روح الثقل أو العلو على الميراث الميتافيزيقي التقليدي. ولذا تجده يستخدم تعابير مثل الرقص والطيران والضحك، وللتعبير عن هذا المعنى. يقول: "إن الإله الذي يمكنني أن أؤمن به هو الإله الذي يرقص".

فعندما اقترب الرّاوي في رحلته التراجيديّة لاكتشاف ما تبقّى من الإنسانيّة استجاب لدعوة مرافقه "تبر" للغناء والرّقص معا، وعندما غنّى، امتدّ الشّجن في لحم روحه،  وعندما دقّ الأرض بخطواته الرّاقصة استعاد زمنا بشريا فات وانقضى وعلا حتّى كاد يطير، ونبتت له ولتبر أجنحة صغيرة لم تمكّنهما من الطّيران، لكن غمرتهما بالسّعادة في لحظة من أكثر اللّحظات سوداويّة في حياتهما. وكأنّ هذا الفاصل الغنائي الرّاقص هو ما أطلق عليه الكاتب الفرنسي كامو Albert Camus "البهجة الميتافيزيقية في تحمل عبثية العالم".

- اللّغة في مواجهة نهاية التّاريخ:

إضافة إلى إعلان نهاية الإنسان والإله تمّ إعلان نهاية التّاريخ، ففي برّلتراس امّحت كلّ الآثار المادّيّة من معالم وكتب، ولم يبق منه إلّا ما هرّبه أمجد شفهيّا من قصائد قديمة وأغاني، وهو موروث لامادّي يؤكّد وجود البشريّة في تاريخ برلتراس، وحتّى في نهاية التّاريخ تطرح هذه الرّواية اللّغة كسلاح لمواجهة هذا الموت المطبق من كلّ الجوانب.

 في برلتراس "يترمّد النّاس ويموتون أمر عادي، يا مُرقّم. أمّا اللّغة فلا تترمّد، ولا تصدأ، ولا يأكلها اللّيل" وهو ما يؤكّده أمجد عندما يقاوم الوحشيّة الّتي أصبح عليها حين أجاب الرّاوي وهو يبتسم بفمه نصف البشري وجلده الممزّق وظهره المدمّى عن سبب حرصه على تدوين النّصوص القديمة، وحفظها وإنقاذ اللّغة من الانقراض "لقد خسرنا كلّ شيء، لكن هل يجب أن نخسر المستقبل؟"

إنّ نصر سامي وهو يعرّي خراب العالم ويدقّ نواقيس الخطر أمام نهاية الإنسانيّة، من خلال هذه الرّواية، يضيء أيضا شمعة في العتمة ويوجّهنا نحو بصيص الأمل المخبّئ في سوداويّة المستقبل.

هذا الأمل ليس سوى اللّغة: اللّغة باعتبارها شرطا أساسيّا لتحقيق إنسانيّة الإنسان وأداة تواصليّة لتفهم العالم والسّيطرة عليه. ويذهب نصر سامي في روايته إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبنتي Maurice Merleau-Ponty‏ بأنّ "اللغة هي طريقة للجسد البشري كي يحيا ويسود العالم".

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث