صور الخوف وأبعاده المتعددة في قصص " أجساد محشوة بقش " للأديب عبد الحميد الغرباوي | عبد النبي بزاز

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 


مجلة فن السرد

عبد الحميد الغرباوي


يتميز الكتاب القصصي " أجساد محشوة بقش " ( في مديح الخوف ) للكاتب والقاص المغربي عبد الحميد الغرباوي، ببروز موضوع الخوف عبر تمظهرات وانكشافات مختلفة في جل نصوصه ، كما يرسم الكاتب أبعادا تتوزع بين ما هو وجودي ومعرفي وتاريخي، في أمكنة وأزمنة غنية بحمولاتها الرمزية ونزعتها الماضوية العريقة، عبر لغة متفتحة ومنفتحة على أساليب متعددة تضمنتها قصص تلتئم فيها عناصر السرد الأساسية، لبناء مقومات خطاب قصصي صادر عن رؤى تمتح من مناهل فكرية ومعرفية متنوعة، تمنح مدونة الحكي آفاقا أرحب، وأبعادا أعمق .

 يحضر  موضوع الخوف من خلال مفاهيم عدة كما في قصة " شيء ما ليس على مايرام "، يقول السارد:

 " الخوف ليس وحشا يخرج من كهف قديم ؛ إنه ظل دائم في ردهة الريح ... " ص 13، مما يخلع على الخوف غلالة روحية تنأى به عن أي تصور مرعب لزمن بدائي قديم ، إلا أنه يلازم السارد ويلزمه، ويضغط على أنفاسه : " أحاول أن أتنفس بعمق، لكن الخوف يلتصق بجدران صدري كعنكبوت نسج خيوطه بإحكام " ص 10، بل يطوق كيانه، ويسيطر على ذاته بالرغم من عدم تحديد ماهيته وطبيعته: " إنه ليس خوفا من شيء محدد، بل هو خوف شامل ... " ص 10 ، لاتساع حيزه، وتباعد أطرافه .

 تتوالى معاني الخوف في هذا المنجز القصصي : " الخوف لم يكن صراخا ، بل همسا مستمرا ... " ص33، من همس مستمر إلى مقطع مفقود من أغنية معروفة : " الخوف يشبه ذلك الشعور الغريب عندما تستمع إلى أغنية تعرفها جيدا ، لكنك تكتشف فجأة أن هناك مقطعا مفقودا ، بحيث فجوة صامتة تغير كل شيء  " ص37، إلى بئر غير معلومة الأعماق مما يستحيل معه معاينة ما تختزنه أغوارها:

 " الخوف كان يشبه تلك البئر ، شيئا موجودا ولكنه غير مرئي تماما ، فراغ ينتظر أن يمتلئ بشيء لا يرغب في معرفته . " ص 37، فهذا الخوف يزداد ضغطا على النفوس: " كان الخوف يضغط على صدره ، يمنع الهواء من الدخول . " ص 39، يحاصرها، يطوقها : " كل خطوة تهز الخوف الساكن في جسده الصغير ... " ص 39، دون القدرة على التخلص من سطوته ، والانعتاق من سلطة سيطرته و تحكمه مهما بلغ حجم وقيمة ثروتها كما هو الأمر في قصة " سيرة ملاكم " : " كان يعرف أن هذا الخوف لن يتركه أبدا مهما بلغت ثروته . " ص 45 ، مما دفع في اتجاه مواجهته : " إذا كان هذا الخوف سيلازمني بقية عمري ، فلا سبيل لدي سوى مواجهته ... " ص 10، عسى أن يهتدي إلى سبيل للتخلص من هواجسه المقلقة والمربكة : " ربما أجد فيها يوما ما ، مفتاحا للخلاص. " ص 10، ولم لا التعايش معه في غياب القدرة على قهره ، والانفلات من ربقة سلطته وتحكمه : " أو ربما كان هذا هو الدرس الأخير الذي يجب أن يتعلمه ، أن بعض لا يمكن الخوف قتله ، فقط بل يمكن التعايش. " ص 45 .

 للخوف في قصص الغرباوي أنماط وأشكال ؛ منها ما يدل على الفراغ : " كان هذا هو خوف الفراغ ... " ص 52، في انفتاح على عوالم غير محددة ؛ لامتناهية الامتدادات ، وما هو وجودي أنطولوجي في علاقته بالموت : " ليس الخوف من الموت . " ص 17، كمصير محتوم : " فالموت وعد لامفر منه ... " ص 17، ومفاجئ أحيانا : " تذكر جاره ، الأستاذ مصطفى ، الذي كان دائما يتحدث عن السفر وكتابة الروايات ، ثم مات فجأة تاركا وراءه مسودات ، وركاما من كتب لم تقرأ ... " ص 33، ينسف تفاصيل وفصول خُطَط ومشاريع تم إعدادها وتجهيزها لراهن محدد ومستقبل قادم. والوجود الذي يغدو عاجزا عن تجاوز نواميس الزمن المحكوم بالزوال والنفاد : " إنه يُذكِّر بهشاشة الوجود ... " ص 60، وفلسفته ، أي الوجود ، ما دام يعجز عن الخلود والبقاء في اخذ مجرى التدفق والتحول : " كان هناك فقط فهم عميق بأن الوجود لا يتعلق بالبقاء على نفس الحال ، بل بالتدفق ، بالتحول ... " ص 60.ورغم سيطرة الخوف على شخوص النصوص ، ومن بينهم الراوي ،فإن هناك بارقة أمل تلوح في الأفق تبشر بما أفضل وأحسن : " لكنني رأيت أيضا ، شرارة صغيرة من الأمل تتوهج ... في أن يكون الغد أفضل ، حتى لو بدا ذلك مستحيلا . " ص29 ، هذا الأمل الذي يخترق حصون الخوف ، ويشرق في غياهب عتمته حاملا تباشير انفراج قادم قادر على تغيير وضع يعمه الخوف ، ويتحكم في زمام صيرورة مجرياته . فضلا عن التلميح لأحداث تاريخية في تعالق وتقاطع بموضوع الخوف كلجوء الفلسطينيين المهجرين والمرحلين قسرا من وطنهم المغتصب مثل " قصة "أبوسعيد " وما تعج به ذاكرته ووجدانه من حنين وأسى على بلدته التي ظلت أجزاء من تربتها وأشجارها راسخة في ذاكرته : " كان " أبو سعيد " اللاجئ الذي لم ينس كفر قاسم قط ، يجلس أمام خيمته المتهالكة ، يقلب حبات المسبحة الخشبية . يرى في كل حبة تتسرب من بين أصابعه ذكرى لطفولة ضائعة ، لشجرة تين زرعها والده ، لنشيد صمود صدح في يوم النكبة. الآن صارت الحقول تحمل حكايات الحصار ، وصار الخوف كامنا في كل زاوية ، في كل حاجز ، في كل لافتة تشير إلى طريق مغلق. " ص 81، وما استعمله من مفردات وعبارات تعكس سوء الوضع ، وحجم النكبة والمأساة مثل ( اللاجئ ، النكبة ،الحصار ، حاجز ، طريق مغلق ). نفس الوضع عاشه المواطن العراقي " أبوعلي " الذي يصور الخوف المحدق والمحيط بالمدينة : " لم يكن الخوف في المدينة مجرد شعور ، بل كان نهرا يجري تحت الأزقة القديمة ، يُسْمَع صوت جريانه في الليالي التي لا ينام فيها الأطفال ." ص67، في تصوير معبر ودقيق من خلال قراءة أبعاده وامتداداته كتشبيهه ، أي الخوف ، بنهر يجري تحت الأزقة ... والليلي التي لا ينام فيها الأطفال ، وفي عبارات أخرى ، مثل : " فالخوف أصبح مألوفا ... " ص 67، لتأكيد واقع التعايش مع الخوف ، وربط أواصر الألفة معه ، وعبر " أبوعلي " عن ذكريات ماض مجيد : " كان " أبوعلي " يجلس في مقهاه الوحيد الذي بقي صامدا ... كما لو أنه يستدعي صورا مبعثرة ، صورة لشارع كان يضج بالحياة ... عندما كان نهر دجلة يفيض بالخير ... الآن ، صارت دجلة تحمل حكايات من الألم ... " ص 67، في مقارنة، مؤثرة ومريرة، بين ماض مشرق زاهر ، وحاضر متردي بئيس . والمواطن السوري متمثلا في " أبو رامي " صانع الفسيفساء الذي يحكي عن ماضي البلد البهي : " تذكر " أبو رامي" عندما كان صغيرا ، وكيف كان يرافق والده إلى سوق الحميدية . كانت الروائح تتداخل ، والأصوات تتعالى ، والناس يضحكون دون قيد . " ص 71، والراهن المأساوي المنكوب المسكون بمظاهر الألم والفجيعة والغياب : " صارت الأسواق تحمل حكايات من الغياب ، وصار الخوف كامنا في كل زقاق مهجور ، وفي كل دكان أغلق إلى الأبد . " ص 71. ووضع اجتماعي موسوم بالفساد المتجسد في الظلم الذي تعاني منه فئات عريضة من مجتمع تنخره سلوكيات تنم عن حيف وجور غالبا ما يؤدي إلى ردود رفض وغضب من قِبَل المستضعفين والمظلومين : " ليس الغضب من قدر مجهول ، بل من ظلم واضح ، من أيد تسرق قوت الفقراء وتلقي بهم في دهاليز اليأس . " ص29 .

 كما اعتمدت مدونة السرد عناصر القصة المعروفة ، مثل الاسترجاع الذي ورد في العديد من النصوص بدءا من أول قصة في الكتاب " الزائر الثقيل " : " أسترجع طفولتي فأتذكر جدتي وهي تحكي عن " الغول " الذي يختبئ في الظلام ... " ص9، وفي قصة " شقوق " : " وعندها ، تبدأ ذكريات بالانسياب كماء من نبع صغير ..." ص 25 ، في سياق استرجاع لحكايات الطفولة ، إلى نبش في أضابير ذكريات ما تفتأ تتوالى في انسياب وسلاسة إلى تذكر أماكن ذات حمولة رمزية غنية ومتنوعة ،مثل البئر : " تذكر بئرا مهجورة في مراح منزل طفولته . " ص 37، وأيضا المراح كفضاء مفتوح على أجواء رحبة ، وصورة الوالد وهو يشاهد التلفزيون : " يتذكر والده ، وهو يحدق في شاشة التلفزيون . " ص 55. وبعد الغوص في ثنايا الطفولة ينتقل إلى مرحلة الشباب عبر نوستالجيا توق مشرق وجامح : " تذكر أيام شبابه عندما كان الشغف يضيء دربه ، وكيف كان كل شيء يبدو في متناول اليد ، كشمس صيفية تملأ الكون بالدفء قبل أن تخبو. " ص85 . وعنصر الحوار بشقيه الداخلي كما ورد في قصة " الزائر الثقيل " حين يحدث السارد نفسه : " الخوف من المجهول يطرق على باب وعيي كلما خمدت الأصوات ... " ص 9، والخارجي في مثل قصة " شيء ما ليس على ما يرام " حين يجيب الراوي سائلته عن الخوف : " تسألينني عن الخوف ، وعن شعوري اتجاهه ؟ الخوف ليس وحشا يخرج من كهف قديم ؛ إنه ظل دائم في ردهة الروح ... " ص13. والأمكنة ، مثل نهر دجلة بالعراق : " الآن صارت دجلة تحمل حكايات من الألم وصار الخوف كامنا في كل موجة صغيرة تضرب ضفافها المنهكة . " ص67، وجامع بني أمية بدمشق : " لم يكن الخوف في دمشق أمس مجرد شعور عابر؛ كان ظلا طويلا يرقص بين أعمدة جامع بني أمية ... " ص 71، وفندق البشير بالدار البيضاء في قصة " متاهة فندق البشير ". وشخصيات مثل الحاج بوشعيب بائع النعناع قرب فندق البشير ، وأبو رامي صانع الفسيفساء بأحد أحياء دمشق ، وأبو علي ( البغدادي ) نسبة إلى مدينة بغداد . وهي عناصر اعتمد عليها القاص لمنح نصوصه طابعها القصصي ، والذي لم يفتأ يخلق أجواء حكي تنوعت فيها الأمكنة ، وتباعدت فيها الشخصيات عبر إيقاع من تجاذب وَحَّدَها من خلال محورية موضوع الخوف الذي انفتح على العديد من النزعات، والأفكار ، والرؤى ساهمت في إغناء المتن القصصي ، وتوسيع آفاقه ومقصدياته . وتميزت أيضا لغة قصص الكتاب بتنوع توزع بين وصف باهر ومعبر منذ الجملة الأولى في النص الأول " الزائر الثقيل " ، حيث نقرأ : " الليل يجثم على المدينة خائقا رغم الأضواء ، والصخب لا يهدأ . " ص9، وفي قوله : " تساؤلات تتكاثر كالصراصير في زاوية مهجورة من الروح " ص9، و حين يقول أيضا : " حيث تتراكم الأيام مثل الغبار على أكتاف البؤساء... " ص29، وما تحمله من معاني ودلالات غنية ببعدها الرمزي والجمالي . ومسحة رومانسية حالمة تمتح من قاموس زمن ندي ( الفجر ) محاط بإكليل من أزهار ، وحفيف ريح خافتة منعشة : " في الفجر ، عندما استيقظت زهرة بيضاء ببطء على إيقاع حفيف الريح ... " ص 59، ومع ما يضفيه إشراق الشمس من وضاءة وبهاء على قطرة الندى : " عندما ارتفعت الشمس قليلا ، بدأت قطرة الندى تتوهج بألوان ، قوس قزح ، كأنها تحتفل بوجودها المؤقت ." ص 59، التي تستمد نضارتها وتوهجها من امتزاج ألوان قوس قزح البهية المشرقة.

إن كتاب " ألوان محشوة بقش " للكاتب الروائي والقاص عبد الحميد الغرباوي يعج بحمولات معرفية مختلفة من خلال ما استخدمه من عناصر وأدوات سردية، خلعت عليه تعددا و تنوعا ساهم في إثراء نسيجه القصصي، انطلاقا من رؤى فكرية ومعرفية ذات أبعاد رمزية عميقة ، وإن كان أبرز موضوع هو الخوف الذي حضر بشتى الأشكال ، ومختلف التجليات في جل قصص الكتاب التي طبعها بعمق دلالي ، ومسحة جمالية متعددة المعاني والصِّيَغ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أجساد محشوة بقش (كتـاب قصصي ) عبد الحميد الغرباوي.

ــ دار علي بن زيد للطباعة والنشر بسكرة ـ الجزائر 2025 .

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث