حميد سعيد بين شعرية الرؤية وجمالية الشعرية | عصام عبد السلام الشرتح

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

حميد سعيد بين شعرية الرؤيا وجمالية الشعرية | عصام عبد السلام الشرتح

حميد سعيد بين شعرية الرؤيا وجمالية الشعرية | عصام عبد السلام الشرتح



الشعرية أو جمالية الشعرية تتجلى في قدرة النص الشعري على خلق لغة شعرية اختلافية، في مدها الجمالي وطيفها الإيحائي، وهذه القيمة الجمالية أو الفرادة الجمالية هي التي تميز نصاً شعريأ جمالياً أو فنياً عما سواه، سواء أكان ذلك بالمكونات الجمالية، أو المؤثرات الجمالية ، أو الشكل اللغوي الجمالي والمعنى البؤري العميق؛ وبهذا المقترب الرؤيوي يقول تزفيتان تودوروف:" ليس العمل الأدبي في حد ذاته موضوع الشعرية، إن العلاقة بين الشعرية والتأويل هي بامتياز علاقة تكامل"(1). 

وهذا يدلنا على أن الفن قيمة تكاملية بين الشكل اللغوي الجمالي والمعنى الرؤيوي العميق، وهو ما جعل أدونيس يحكم على الشاعر من خلال رؤيته الجمالية وروح الجمال الإبداعي الذي يكمن في إحساسه قبل لغته الشعرية، إذ يقول:" الشعر ليس موجوداً في اللغة، كما هو اللون مثلاً ، أو العطر موجود في الورد. الشعر في الإنسان، والإنسان هو مالئ اللغة، ومالئ العالم"(2). 

وهذه القيمة الجمالية الرؤيوية، هي التي تميز الشاعر الرؤيوي المبدع الخلاق مقارنة بغيره من الشعراء.

ولو بحثنا في مصدر شعرية الرؤيا في قصائد( نجمة بعد حين) لحميد سعيد،  لوجدنا أن لهذه الشعرية جذرها الرؤيوي الاغترابي، الذي يجعلنا نتوق دوماً إلى مداليل جديدة، ورؤى فلسفية وجودية تجعل الدراما الفلسفية أو الدراما المفلسفة للواقع ماثلة بقوة عبر دوائر مفصلية، أبرزها التأمل والاغتراب والوجع والحنين إلى ما مضى، لرسم منعرجات الذات وقلقها وحلمها الوجودي المأزوم بين ماضٍ يمثل البريق المستقبلي، ضمن ما يبثه من تطلعات وآمال واقعية انقضت ومضت ومازالت تبرق في مخيلة الشاعر من جديد، وواقع اغترابي، أي إن شعرية الرؤية هي استحضار لشعرية الذكرى والبحث في إشعاعات هذه الذكرى لتحيا من جديد ، لتمثل الدراما الواقعية أو دراما تجسيد الواقع الرؤيوي الحالي بمقتضى رؤيوي جدلي يبث الاغتراب، والوله، والحنين إلى ما مضى، بإحساس شاعري عميق، وقدرة بليغة على خلق الدراما البصرية والرؤيوية التي تشعرن الفواعل البصرية واللغوية والتشكيلية في القصيدة، كما في قوله:

"لا قمرٌ يدنو من القِباب

لا حمامةٌ تعيد للنوافذ البيض..

البراءةَ..

استظلَّ هارون الرشيد بالقرنفل العتيقِ..

فاختفى القرنفل العتيقْ

يبحثُ عن طريقْ

إلى المدينة التي لا تحسن الخوفَ ولا النسيانْ

تأتي كما تشاء

لا كما يشاء الحزنُ في الغناءْ

فتملأ الأمداءْ

حُباً وكبرياءْ"(1).

هنا، يعزف الشاعر إيقاعه الفني اللغوي ـ الجمالي على تشكيلاته اللغوية وعلاماته البصرية والنثيث النقطي الذي يتخلل الكلمات، ليحرك الدراما البصرية ـ اللغوية الشعورية ليبث اغترابه وحنينه إلى العراق، إلى التاريخ إلى الوجود والحضارة والانتماء، لدرجة أن الفراغات النقطية تركت دورها وناتجها الدلالي الشعوري للتعبير عن حالة العقم والفراغ والتلاشي، التي يعيشها بانتظار الماضي المشرق لا الحاضر القاتم الذي نهش كل جمال، وفقد بريقه الوجودي: "لا قمرٌ يدنو من القِباب/لا حمامةٌ تعيد للنوافذ البيض.. البراءةَ.."، وكأن هذه النقط تمثل حالة الخواء والعقم والتصحر الوجودي في نيل السلام والنور والمجد المشرق الذي كان، وقد جاء التركيب الوصفي ( النوافذ البيض) بليغاً في التعبير عن توقه إلى الماضي المشرق لتعيد أيامه البيضاء المشرقة كما كانت، وتجتث من براثينها عرى القهر والحزن لنشر البياض والضياء.

والمثير أن شعرية الرؤية _ في قصائد (نجمة بعد حين)_ لا تعتمد على الحياكة الجمالية الدرامية التي تثيرها في نسقها الشعري اللغوي، وإنما تلعب الدراما البصرية بمحمولها الجمالي قيمة تبئيرية في تفعيل الحدث وإنتاج المعاني والرؤى العميقة، التي تدل على الاغتراب والحنين والتوق إلى ما مضى بحس درامي يربط الزمنين الماضي والحاضر في نسق شعري واحد تفاعلي استثاري عميق، يفعِّل الحدث والمشهد الدرامي في آن كما في قوله:

"الظمأ القادمُ من منفى المياهِ

الملحُ والحنظلُ

يطردان ما تبقى من نخيل الجَدَّ

ما أوصى به الأحفادَ

لا يذكرهُ الأحفادُ

من مضى إلى عاصفة الوردِ

ومن مضى إلى مخابئ الرمادْ

للعاشق المقيم في ما لا يرى."(2) .

هنا، لا يخلق الشاعر الصورة الدرامية أو الجدلية المحتدمة، وإنما يخلق الرؤية الدرامية التي تجعل النسق الشعري يشتعل بالحراك الشعوري الارتدادي الدرامي المأزوم بين عالمين أو واقعين محتدمين او متعاكسين او مشهدين وصورتين متضادتين( مخابئ الرماد) التي تدل على الجبن والضعف والواقع الانهزامي المؤلم، وصورة نقيضة مقابلة :(عاصفة الورد) التي تدل على الثبات والقوة والإصرار والتحدي، وهذان المؤشران الدلائليان يضعان القارئ في لجة المكاشفة الدرامية بالموازاة بين عالم انهزامي قاتم عاشه بالاغتراب والحنين والتوق الالتصاقي بما كان لما يمثله من عبير الحنين والذكرى، وعالم وضيء( عاصفة الورد) التي تمثل الحياة والتفاؤل والميلاد الجديد، وهكذا تشتغل فنية الدراما البصرية مع اللغوية في تحريك الشعرية وكشف المعاني الباطنية البؤرية العميقة.

ولعل من الفواعل الدرامية التي تحرك الدراما البصرية واللغوية والحس الفني الجمالي الارتداد الزمكاني إلى الملاحم والحنين إلى تشكيل بانوراما واقعية ترسخ التاريخ والحضارة العراقية، وتؤكد تجذر الماضي العريق بملاحمه وبطولاته وإشراقاته وحضارته المتتالية مقارنة بالواقع المرير الذي يعكس حالة العبث والتلاشي والهشاشة والانهزام، كما في قوله:

"دعيني أُقيمُ بلاداً كما تتمنى البلادْ

وأكتب آخرَ ملحمةٍ ..

تستعير الملاحمُ منها..

صحائف من سيرة الجمر

خبأتها في ثنايا الرمادْ"(3).

هنا، يحرك الشاعر الدراما الزمكانية الاسترجاعية ليعيش وقع الحالة التعبيرية التي من خلالها يرسم الواقع بعدسة لاقطة يبث الكلمات التصويرية اللاقطة التي تختزن ما مضى بإحساس درامي متوتر جدلي بين ما كان، وما هو كائن في الواقع؛ بين سيرة الجمر التي تشكل الماضي العريق والحضارة والتاريخ المشرق، وثنايا الرماد التي تمثل الواقع بكل ارتكاساته ومآسيه المؤلمة وهزائمه المخزية، لتكون الدراما الشعورية البصرية نقطة تفعيل الرؤى والدلالات، وحراك البنى التصويرية التي تشكل أيقونة التعبير الرؤيوي الشامل عما يعيشه في عالمه من اغتراب وحنين وتوق إلى التشبث بالماضي وتخليده في الذاكرة.

وأخيراُ، يغلق الشاعر دائرة درامية الرؤى ليفتح بوابة الألوان ويعكس من خلال الجدل اللوني واقع الحال، واقع ما آلت إليه أحلامه ووطنه وضياع الأمل والتشبث بالظل الذي يمثل نقطة استرجاع الأزمنة وخمر العودة إلى الواقع والنور المشرق، إذ يقول:

"لا وطنٌ .. لا .. لا..

هربت من صفحات الكتمانِ قصيدتُهُ..

ومضت حافيةً تتعثَّر بالظلِّ..

يحاولُ أن يدخلَ في الظلِّ ليوقفها..

هرب الظلُّ..

وغلَّقَت الأبوابْ"(4).

وهكذا تأتي الدرامية _ في قصائده_ لترسم الظلال والألوان وحراك المكونات الرؤيوية التي تؤكد اغترابه وحنينه، " لا وطن.. لآ .. لا..)، وهذا الانقطاع النقطي الذي أكده بحرف النفي ( لا) وأردفه بنقطتين تأكيدا على عدم التحقق والإصرار على الرأي أن كل ماهو جمالي ومشع بالأمل، رحل وأغلقت الأبواب وزمن العراق المشرق الذي كان تلاشى وانتهى...

هوامش:

(1) تودوروف، تزفيتنان، 1990ـ الشعرية، تر: شكري المبخوت، ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، المغرب، ط2، ص24.

(2)أدونيس، علي أحمد سعيد ،1985ـ سياسة الشعر، دار الآداب، بيروت، ط1، ص110.

(3)سعيد ،حميد ،2023ـ نجمة بعد حين، دار دجلة، ص8.

(4)المصدر نفسه، ص6.

(5) المصدر نفسه، ص16.

(6) المصدر نفسه، ص46.

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث