ميتافيزيقا السرد والتفكير القصصي | محمد صالح البحر

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

ميتافيزيقا السرد والتفكير القصصي | محمد صالح البحر

 

          ميتافيزيقا السرد والتفكير القصصي | محمد صالح البحر    

تهتم الميتافيزيقا بالبحث عن جوهر الشيء، وليس الوجود الواقعي له، لأن الوجود الواقعي كثيرا ما يُعطي صورة ناقصة أو باهتة عن الشيء، صورة شوهتها ظروف الواقع، وتلطختْ بمعاناته على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، للدرجة التي يكاد الشيء معها أن يفقد جوهره الأصلي، ويحيد عن أسباب وجوده الأساسية في الحياة، لذلك تبدو النظرة الواقعية للأشياء نظرة غير مكتملة، وغير حقيقية، مثقلة بالمعاناة، ومحبطة بفعل القسوة المفرطة التي مارستها الظروف عليها، أو التغيرات التي جرتْ من فوقها، ومن أجل ذلك تحاول الميتافيزيقا أن تتجاوز نظرتها هذا الواقع المرئي، تحاول أن تنفض عنه تراب القسوة وتراكمات التغير، لترى الأشياء في جوهرها الحقيقي، الذي يُعبر عنها، والذي يمكننا من خلاله ـ حين ننجح في النظر إلى ذواتنا الحقيقية ـ أن نفهم مغزى وجودنا في الحياة، بعد أن نُخلصه من شوائب الواقع، لنعرف كيف نرتقي به من بعد.

وفي المجال الإبداعي اتخذتْ الميتافيزيقا من الفن السلاح الأقوى الذي تُمسكه بيدها، السلاح الذي يُمكنها من طرح الأسئلة، وإبراز المتناقضات، ليس بشكل مجرد كما هو الحال في الفلسفة، بل بشكل تمثيلي يمتلك القدرة على التجسيد في أحداث، وشخصيات، وواقع درامي يستطيع أن يصل إلى رؤى مكتملة، وهو يغوص بنظرته إلى كل عمق ممكن داخل كل شيء، ومن هنا يُمكننا تعريف الفضاء الميتافيزيقي للسرد، بأنه حجم المتخيل الذي يخلقه السرد في ذهن القارئ من خلال الأحداث والشخصيات التي يتناولها، ليخلق نظرة ثاقبة يستطيع من خلالها أن يتجاوز الشخصيات والأحداث، أو ينفذ إلى عمقها الداخلي، ليجعلنا نرى ما يتوارى من خلفها، ما يُحركها ويدفعها لكي تكون على ما هي عليه في الواقع المرئي.

وحتى إذا انعكس الأمر، ليصبح الإبداع هو الذي اتخذ من الميتافيزيقا سلاحا قويا، يمكن من خلاله النفاذ إلى عمق أكبر للأشياء، للوصول إلى رؤى ومعان جديدة، وأكثر عمقا وقدرة على التأثير في المتلقي، فإن النتيجة واحدة، فالأفكار التي تتخذ من الإبداع طريقا للوصول اليسير إلى المتلقي، تُشبه الإبداع الذي يتخذ من الأفكار طريقا للوصول الهادف إلى ذات المتلقي، الأمر إذن واحد، ويشبه إلى حد كبير عملية يتبادل فيها الطريق، ومنْ يسير عليه، الأدوار، للوصول إلى غاية واحدة، وتحقيق هدف واحد، الإنسان، وكيف يرتقي في الحياة.

أهمية الميتافيزيقا إذن تكمن في قدرتها على تعريفنا المباشر بجوهر الأشياء، تصحيح رؤيتنا للأشياء للنظر مباشرة إلى حقيقتها، وبالتالي معرفتها والتعامل معها، والحُكم عليها، والاستفادة منها، بشكل سليم، وبتعبير أكثر أدبية يمكن اعتبارها الطريق المباشر / المختَصَر / القصير إلى جوهر الأشياء، وإذا ما أردنا استخدام قياس هذا المفهوم على الأنواع الأدبية فإننا بيقين كامل سندرك أنه يشبه إلى حد كبير فن "القصة القصيرة" تحديدا، فالقصة القصيرة تتميز بكل هذه الصفات التقنية في صياغتها وبنائها، تتميز بالقِصر، التكثيف، الاختزال، الوصول المباشر إلى الرؤية، أو الرسالة، التي تريد إيصالها إلى المتلقي، وهو الأمر الذي يمكننا من القول بأن القصة القصيرة تشبه الميتافيزيقا في اهتمامها بالنظر إلى جوهر الموضوع، والوصول المباشر إليه، وأنها بذلك تُمثل "جوهر" الأنواع الأدبية التي تعتمد الدراما طريقا لإيصال رسالتها إلى المتلقي، كالرواية والمسرحية والملحمة والفيلم السينمائي.

سيقول قائل: إن القصة القصيرة فن حديث بالنسبة إلى هذه الأنواع، وربما يتساءل بدهشة: كيف يمكن لفن بهذا التأخر الزمني في الظهور أن يكون جوهرا لفنون عتيقة، وموغلة في الوجود؟! وربما من النظر إلى جوهر سؤاله نستطيع أن نستخلص الإجابة، بل لعل النظر إلى جوهر سؤاله هو الإجابة تحديدا، وأن هذا التأخر الزمني للقصة القصيرة في الظهور ليس إلا تصحيحا للتقنيات الفنية التي تم استخدامها في الأنواع السابقة، ومحاولة حقيقية لتخليصها من شوائب الحكي وزياداته، للوصول إلى جوهر موضوعها ورؤيتها ورسالتها بشكل مباشر، من خلال الاختصار والتكثيف، واقتصار السرد على مضمون الحكاية فقط، فالرواية والملحمة والمسرحية والفيلم السينمائي ليسوا إلا حكايات طويلة تدور حول مفهوم واحد، ورؤية واحدة، وتبغي الوصول إلى غاية / رؤية / رسالة واحدة أيضا، والنظرة المتأملة في الكثير من الروايات ـ بغض النظر عن قيمتها ـ ستجد أنها ممتلئة بالتطويل، والتفريعات، والزيادات التي يُمكن الاستغناء عنها دون أن يُحدث ذلك أي ضرر يُذكر على موضوعها، أو رؤيتها، ونستطيع هنا أن نضرب مثالا برواية "مائة عام من العزلة" (1) التي رغم قيمتها الفنية التي شهد لها العالم، إلا أنه يُمكن اختصارها إلى ما يُقارب ثُلث حجمها تقريبا، وإذا ما نحينا عنصر الترجمة جانبا، يمكننا أن نضرب أمثلة كثيرة بالعديد من الروايات العربية، التي ستُخبرنا النظرة المتأملة إليها بأنه يُمكن اختصارها بشكل كبير، قد يصل ثُلث ونصف حجمها أيضا، وربما لا نكون مبالغين إن قلنا إن موضوع ورؤية الكثير من الروايات ـ مهما بلغ حجمها ـ يمكن صياغته في شكل قصة قصيرة، لا تبلغ عُشر طولها، وأن ذلك التكثيف لا يتعلق برؤية "التنظير المُخَرِب" الذي يربط القصة القصيرة بتقنية التكثيف اللغوي فقط، بل يتعلق الأمر هنا بفكرة تكثيف الرؤية، بقدرة القصة القصيرة على الوصول السريع إلى جوهر الحكي، ورؤية حقيقة الأشياء بلا زيادات، أو شوائب، تتعلق بالتقنيات الفنية لبقية الأنواع الدرامية، كالامتداد الروائي والملحمي، أو العناصر الحركية والسمعية والبصرية في المسرح والفيلم السينمائي.

يمكننا الآن القول بقلب مطمئن: إن القصة القصيرة هي جوهر الأنواع الأدبية الدرامية، ومن هنا يمكننا أن ننطلق أيضا إلى ما يُمكن تسميته بـ "التفكير القصصي"، الذي يمكن اعتماده كتقنية فنية في كتابة بقية الأنواع الأدبية الدرامية، ونعني به اعتماد نظرة التكثيف، التي تحتوي على كل تقنيات القصة القصيرة، في كتابة الرواية والمسرحية والفيلم السينمائي، فالنظرة المتأملة أيضا إلى بعض الأعمال الروائية التي اعتمدتْ على هذه النظرة في بنائها الفني، وجدتْ أنها روايات أكثر نضجا، وقيمة، وإحكاما، من الأعمال التي اعتمدتْ التطويل، وكثرة الشخصيات، وتراكم الأحداث الفرعية، والامتداد الزمني، ولعل رواية الأصوات خير نموذج دال على ذلك، فرواية "رجال في الشمس" (2) استطاعت أن تختصر المتاهة الفلسطينية كلها بعد نكبة 48، والمصير الذي ستؤول إليه من بعد، عبر رحلة صحرواية غير شرعية لثلاثة أفراد فقط، لكنها كانت كافية لأن تطرح فكرتَيْ الموت والمصير على أكثر أبوابهما اتساعا، وكذلك رواية "موت وردة" التي استطاعت أن تختصر تاريخ البشرية عبر الصراع الدائم بين الخير والشر، من خلال حدث واحد هو غرق الطفلة الصغيرة "وردة" في النهر، ورؤية الشيطان، وأبوها آدم، وأمها حياة، وصديق والدها فؤاد، لها أثناء الغرق، أما النموذج الأمثل للتفكير القصصي في فن "القصة القصيرة" نفسه فهو "قصة الحالة"، التي يُقدم الكاتب من خلالها النهايات كبؤرة أساسية للحدث، ثم يسعى إلى تفجيرها من بعد، النهايات التي تُشكل "الحالة النفسية والشعورية" التي أدَّتْ إلى حدوث الحكاية من الأساس، ليفتح أمام مخيلة القارئ بابا واسعا للتأمل، يستطيع من خلاله أن يُحدد سياق الحكاية، ليصل بنفسه إلى الرؤية التي تخصه منها، أي أن الكاتب لا يُقدم للقارئ أفكارا وموضوعات سابقة التجهيز، بل يجعله ـ عن طريق "الحالة" التي يسردها عليه، ويُوقعه فيها، يصل إلى الفكرة / الرسالة / الرؤية وكأنها نتاج مخيلته هو، وهو الأمر الذي يُشكل الميزة الأساسية لاستخدام تقنية "الحالة" في السرد، لأنها تنقل القارئ من مقعد المتلقي السلبي، لتجعله مشاركا رئيسا في إنتاج النص القصصي ـ باعتبار أن ما يريد الكاتب ايصاله إلى المتلقي هو الغاية الأساسية للنص الإبداعي ـ وبذلك أيضا ينقل شغفه بالقراءة من المتعة الحسية، إلى المتعة العقلية القادرة على إنتاج الأفكار والرؤى.

أما الميزة الثانية لاستخدام "الحالة" في السرد القصصي فتكمن في أن الفرق بين الحكاية والحالة يُماثل الفرق بين المحدودية والاتساع، فالحكاية غالبا ما تكون مُحكمة الغلق على شخصياتها وأحداثها ومكانها وزمنها، وبالتالي فهي مُحكمة الغلق على رؤيتها أيضا، وتنمو في سياق مُحكم ومُحدد للوصول إليها، بينما تُحقق "الحالة السردية" درجة كبيرة من السيولة على مستوى الزمن والأحداث، وهو الأمر الذي يتناسب مع طبيعتها تماما، باعتبار "الحالة" شكلا من أشكال "التأمل الباطني" للذات التي يتم سردها ـ وهو ما يؤهلها لأن تكون تقنية صالحة لكتابة الرواية والمسرحية والسيناريو ـ وتتحقق السيولة هنا لأن طبيعة الحالة تفرض على السرد النظر إليها الآن، في لحظتها الآنية، بينما الاقتراب منها، وتأملها، يفرض عليه تفجيرها، والغوص في ماضيها كله، وهكذا يصير المتن السردي للقصة عباره عن قبض على الذات في حالة معينة، ثم رحلة سياحية في تاريخها للتعرف على كيفية وصولها إلى هذه الحال، السيولة إذن هي التفجير، هي الرحلة التي يقودها تيار الوعي بكل أشكاله وتقنياته الفنية المحتملة، وصولا إلى الغاية المرجوة من النص، ولعل قصة "طفل النور" نموذج حي على ذلك، حيث يتم القبض على لحظتها السردية قُرب نهاية رحلة الرجل في الحياة، وأثناء عودته إلى ما تم التمرد عليه في الأساس، ومع خطوته الأولى في الكنيسة يتم تفجير الحالة لتسيل منه كأنها الحقيقة، حتى أنه يشعر بتسلل الطفل المتمرد منه، وجريان أحداث تمرده بين جدران المكان أمام عينيه، وفي الوقت الذي يظن فيه القارئ أن السرد هنا يهبه قصة عادية تتراكم فيها الأحداث، ويتوالى فيها الزمن، يكتشف في النهاية أنه كان مستلبا في إحدى تقنيات تيار الوعي، ليقوم برحلة سياحية في عقل رجل، يتذكر ماضيه تحت تأثير حالة لا تُرسخ شيئا، ولا تتعارض مع شيء، لكنها استطاعتْ أن تُفجر تلك الرحلة الطويلة، لتُشكل واقعا جديدا ينتاب الشخصية الساردة الآن، وهي تنتشي بالرضا.

ومن هنا يمكننا تعريف "التفكير القصصي" بأنه أسلوب الفكر الإبداعي الذي ينظر إلى جوهر الموضوع الدرامي مباشرة، ويعتمد بناؤه الفني على الاختزال والتكثيف لكل العناصر الفنية المكونة له، بغرض الوصول المباشر إلى الرؤية، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التأثير في ذات الوقت، "التفكير القصصي" هو أن تتصدى لكتابة الأعمال الأدبية الدرامية متسلحا بروح "القصة القصيرة"، ومؤمنا بأن عملك الأدبي الدرامي ـ رواية، مسرحية، فيلم سينمائي ـ سيصبح من خلالها مثل رصاصة، مُحكمة الصُنع والتصويب والوصول إلى الهدف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

1ـ "مائة عام من العزلة" جابريل جارثيا ماركيز، ترجمة صالح علماني، دار المدى للثقافة والنشر، 2005م.

2ـ "رجال في الشمس" غسان كنفاني، دار منشورات الرمال، 2013م.

3ـ "موت وردة" محمد صالح البحر، دار العين للنشر، 2013م.

4ـ "كانت تعترف لي" يوسف فاخوري" مركز الحضارة للنشر، 2010م.

مجلة فن السرد | زوايا


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث