القصة بين الجمالية وممكنات التأويل
قراءة في قصة "أحلام ما بعد السادسة" ليوسف إبوركي
د. عبد الفضيل ادراوي / كلية الآداب، تطوان
تقديم
النص وآفاق الإبداعية
تحوز قصة "أحلام ما بعد السادسة" للقاص المغربي الشاب يوسف إبوركي، أهميتها الجمالية من جانب ما تستجمعه من مقومات وملامح، تعانقت فيما بينها لتبدو قادرة على أن تأخذ بناصية القارئ نحو ساحات فسيحة، هي من صميم ما يلتمس من الإبداع ذي السمت الإنساني المؤثر المنذور للكونية والبقاء. يتحقق ذلك من جانب التميز بالأصالة (Originality)، ومن جانب خاصية النفاذ والاستشفاف (Penetration)، أي القدرة على اختراق حواجز الزمان والمكان ومحدودية المادة، والسماح برؤية ما يمكن خلفها من مشترك إنساني تحاول الكتابة القصصية معالجته. ما يوقع المتلقي في حب الاستطلاع والفضول المعرفي والامتداد من المعلوم إلى المجهول .لأنه يكلم فيه تلك الجوانب الخفية والمبهمة ذات الصلة بحقيقته الإنسانية الدفينة .
العنوان وحيوية التوقع والتأويل
تواجه القصةُ القارئَ بعنوان ذي قدر محمود من الحيوية التأويلية، من خلال مركب اِسميّ عام (أحلام ما بعد السادسة) يجر مخيلة القارئ نحو تعدد دلاليّ يعتوره ثبات ما،(لدلالة المركب الاِسمي على الثبات والسكون)، يتلوه عنوان ثان فرعي أو بديل (اُدخلوا منازلكم بسرعة)، يكتسب جانباً من قيمته التأويلية من حمولته التناصية: (يَاأَيٌّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُم)، بما تحيل عليه من خوف على المصير، وشعور بالتهديد، وترقب خطر التحطم. ومثله من جهة أخرى، الشعور بالتفاهة والاستصغار في محضر سلطة وقوة لا تقهر.
ورغم ما قد يبدو على المُرَكَّبَين أو صيغتي العنوان من تباعد وانفصال، لكنهما معاً ينجحان في الإيقاع بالمتلقي في متاهات من الاحتمالات والإمكانات الدلالية المترائية فيما بينهما، التي تكاد لا تنتهي؛ بما فيها البحث عن أوجه العلاقة الممكنة بين المركبين، وتكون فيها بعض مدلولات العنوان الأول أحد أوجه الدلالة الممكنة والمفترضة؛ الحلم بمنزل تأوي إليه الذات ويحتضنها، إذا غلبنا الدلالة اللَّيليّة التي توحي بها لفظة السادسة، (بداية أو قرب الليل)،"الساعة تشير إلى السادسة مساءً وأنا وحيد داخل أسوار حديقة وسط المدينة لا أبتغي المتعة أو الاستجمام"، أو الحلم بمستقر تتخلص فيه الذات من هموم البطالة وكوابيس العطالة، إذا استحضر القارئ الدلالة النهارية للفظة السادسة(بداية بزوغ الفجر والسعي في الأرض ابتغاء الرزق والعمل). مثلما تترشح دلالات الرُنُوِّ نحو مستقَر مستقبليٍّ تتخلص فيه الذات من مخاوف وأحاسيس الضياع الطفوليّ المستشعر، الذي يجليه متن النص، جراء حالة شبه اليتم المفروضة عليها بسبب حادث الطلاق بين الأبوين، الذي كان من نتائجه أن وجد الطفل نفسه مُشرَّداً بين الدكاكين والحدائق العامة؛ "..تندلع حرب بين أبي وأمي، حتى جعلت الطلاق الحل الأمثل للاثنين..لأجد نفسي تائهاً داخل منزل كبير لا جدران له". بل إن حيوية العنوان تُبقي مساحة التأويل ممتدة وقادرة على استيعاب حتى أبعد الدلالات؛ الحلم بالخروج والتخلص من سلطة أوامر الدخول والتزام المنازل، الموجَّهة بصرامة من سلطة عليا قاهرة وجبارة: "أفراد العسكر يأمرون المارة بالدخول إلى منازلهم، صوت محرك الدبابات أزعج ضجيج المكان، ونباح كلاب البوليس أصبح كورالا لمطرب يدعى الموت..".
وتتوسع دائرة الاحتمال لتستوعب ما يترجم الحاجة إلى الكلام، أو على الأقل الحاجة إلى الاستماع إليه، بالنظر إلى رتابة المشهد العام جرّاء الصمت القاتل الذي تفرضه صور الموت المخيم على الأفق بكامله؛ "لقد أصبح الصمتُ سيدَ المكان.."،"..أعتذر، عليَّ أن أصمت أيضاً". هذا الصمت يتحول إلى كائن مرعب، ويبسط سلطته القاهرة على الفضاء العام، وينتصر على أية رغبة في الكلام ، ويكبت أية قدرة ممكنة عليه ويفشلها. هذا ما يكشف عنه ملفوظ الذات نهاية النص؛ (ألو...) الذي ينهي المكالمة بلا جواب ولا حتى فرصة استماع لكلام أو توضيح أو تساؤل.. لتبقى مجالات التأويل المشرعة منذ العنوان بصيغتيه، قائمة ونشطة حتى بعد قراءة النص وفهمه. فيغدو العنوان عتبة مستفزة بحق، ويدلل على أنه عنوان ذو سلطة تأويلية .
إن العنوان إذن "عتبة أولى" و"محطة كتابية ضرورية" في النص، يحوز قيمته من حيويته التأويلية، ومن قدرته على استنفار الطاقة القرائية لدى المتلقي، تجعله أسير لعبة تخييلية يشارك فيها بنصيبه في تحقيق بعض أوجه الصورة الكلية للنص. وتكون الصورة السردية في النص هي حصيلة تعاون ومشاركة ما بين الكاتب والقارئ الذي يجد نفسه منخرطا وله "مساهمة في بلورة التكوين النصي وإغناء الرؤية.. والكشف عن القيم الإنسانية" . فكأني بالكاتب يستحضر المقولة النقدية الجمالية التي ترى أن الصورة في الكتابة السردية هي "قبل كل شيء تَمثّل ذهنيّ، وتجربة عقلية يتلذذ بها المتلقي المساهم في فعل القراءة بدوره الحاسم، وجدله الثري مع خطاطات النص، ومظاهره الجزئية،" .
الموضوع والمعنى الرحب
من تجليات إمتاعية النص انتقاؤه موضوعاً إنسانياً موسوما رحباً ومرناً تمتزج فيه المعاني بالأحاسيس والمشاعر، فيفلح بفنية عالية في تشكيل فضاء خاص يستوعب الأفكار والمعلومات والحقائق والمشاهد، يحقق ما يعرف بالفضاء المعنوي في القصة، عبر إخضاع المسرودات لإطار عام يهيمن على كل جنبات النص، فيؤطر الأحداث والأكمنة والشخوص ويَسِمها بسمات عامة تتحكم في كل مجريات وتفاصيل النص وتجعل لها "بعدا خاصا" .
إن القصة تبدو محافظة على رهانها الخاص، تُذَوِّتُ اللحظةَ الخاصة المقتطعة من قطار الحياة وتُشَرِّح بتفصيل إبداعيّ بعض تفاصيل اليوميّ وربما الروتينيّ، لكنه يعود ليثْرَى بدينامية مشوقة، تنقله إلى واقعية جمالية يسندها الوصف الدقيق لدخيلة النفس وتتبع الهواجس والأفكار، وتصوير تقلبات الذات وصراعاتها في علاقتها بنفسها أولا، وبالآخرين وبالأشياء المحيطة بها، وتحويل كل ذلك إلى موضوع للتأمل والنظر وكشف الخفي فيه.
إن النص يفلح بجمالية مستشعرة في تصوير أحاسيس المعاناة وتفاصيل الضياع الإنساني بين دهاليز الحرمان اليوميّ القاتل. فهو يستغل متاحات المعيش اليوميّ التي تمتد من واقع الذات الكاتبة، إلى حيز يستوعب الآخر ويشركه في اللقطة، عبر نسيج من الأحاسيس يفلح في توليدها، فيلتحم الخصوصيّ الفرديّ بالعام الجماعيّ، ويتأطر الكل ضمن نبرة مهيمنة من السموّ والتعالي عن الواقع الحقيقي إلى واقع جمالي مشترك هو واقع التوهم .
الصورة الكلية وبلاغة التكثيف
يقترح النص موضوعاً يختزل قدرةً لا بأس بها على الإمساك باللقطة الإنسانية اليوميّة، معيش الناس. لصياغة صورة كلية هي في حقيقتها "تعبير عن المجتمع" وهواجس الناس، ورأي في المسائل السياسية والاجتماعية وقضايا العصر .
يرصد النص لقطة مقتطعة من أجواء الحجر الصحي الذي فرضه وباء كورونا، وما رافق ذلك من أحاسيس ومشاعر اجتاحت الكل، وغيرت مجرى الحياة الطبيعية للناس، وقيدت حركتهم وتدخلت في علاقاتهم. كل ذلك يختزله الكاتب في قوة(الصمت) الرهيب الذي يبدو قوة فاعلة، وسلطة متجبرة تنتصر وتنتج حركية مخيفة " كتيبة من الجيش تجوب المكان وبعض أفراد العسكر يأمرون المارة بالدخول إلى منازلهم". فيحقق الصمت فاعليته السردية ويساهم في تطوير الأحداث وتوليد ما لا حصر له من مشاعر القلق وأحاسيس الخوف من المجهول، ومن الموت القريب الذي يخيم على الأجواء ويقتحم الحواس؛ "لقد أصبحت للموت رائحة وصوت، أصبحنا نعرفه ويعرفنا.."
من خلال هذه الفاعلية الرهيبة يفلح الكاتب في الكشف عن حقيقة الإنسان المحكوم في جوهره بالضعف والهوان، مثلما ينبه إلى عجز هذا الإنسان عن استلهام الدروس والعبر من هذا التنبيه الكونيّ الدال؛ "بعض الرجال اختاروا أن يبتاعوا سلعاً وبضائع كثيرةً وكأنهم لن يخرجوا من منازلهم لشهورة". فالناس تبدي قصورا في الرؤية، فتحصر الاستعداد لمواجهة الخطر المحدق بمجرد التلهف على الاحتياط من المأكل والمشرب ولوازم معيشها اليومي. فهي لا تنتبه أو تتعظ، فتفترض أية مسؤولية ذاتية محتملة عما يحصل، ولا تلقي بالاً لمستلزمات البقاء الإنساني العام المتوقف على تنمية مشاعر التضامن والاهتمام بالآخر والالتفات لمطالبه وحاجاته: "كنت أنتظر بشغف أن تسقط بعض الأطعمة لكي ألتقطها، قطعة خبز يتيمة تفي بالغرض"، لكنها في عرف الوضع الإنسانيّ المتحجّر تبدو داخلة في حيّز المستحيل والحلم البعيد "لكنها محض أحلام تجوب مخيِّلتي فقط".
تتحقق تكثيفية النص بالانطلاق من موضوع حالة الصمت المخيف، وحالات ترقب الموت المخيم، والذي يبدو مفروضاً بسلطة وتهديد الوباء، والعمل على اتحويله عبر محطات السرد المتتابعة ضمن صورة سردية كلية، تنغرس جذورها الخفية في الوعي والإحساس، وتخلق ما يعرف "باللحظة الجمالية" ، التي تخلق منسوباً محموداً من "الرضا والارتياح لدى المتلقي" .
تبئير اللقطة الدرامية
يجعل الكاتب من الذات بؤرة للتأمل في النص، ويجولها موضوعاً للكتابة، وفي الوقت ذاته منبعاً لتوليد الصور الدرامية المثيرة لأحاسيس الشفقة والدهشة معاً، من خلال تحميلها ركاماً من المعاناة والمآىسي التي فرضها القدر وغذَّتها تفاصيل اجتماعية تظافرت فيما بينها، وتعالقت خيوطها في تشابك معقد جعل منها مرآة تُجلي طبقات متراكبة من البؤس والحرمان، وتبدي صنوفا من المظالم الإنسانية والاجتماعية المتداخلة التي يتولى السرد القصصي الوامض تعريتها أو الإيحاء بها.
يحتفي النص بتفاصيل من المعيش اليوميّ للذات، ويُبَئِّرُ لحظات ولقطات خاصة من الشعور والتأمل والتفكير، ومن صنوف السلوك والتصرف، وتجليات من الانكسار والاستسلام الدال، بشكل يكشف عن سمة متأصلة في الكتابة الإبداعية وهي الحساسية للمشكلات .
خاتمة:
إن النص يبدو على قدر غير قليل من الحيوية الانفتاح، فهو يوفر للقارئ حيزا كبيراً من إمكانات التأويل والتفسير، ويوفر حيزاً محمودا للتأمل النقدي، فهو لا يعدم ملامح الكتابة المحققة لشرط الأدبية، والكتابة القصصية، المشروطة باللقطة المكثفة وبمراعاة خصوصية الحدت وعناصره، وسبل محاصرة المعنى وآليات التعبير الممتع والمؤثر. فهو يسمح بتعدد القراءة وإمكانات الاختلاف بشأن قضاياه، ما يجعل منه محاولة إبداعية "تترك للقارئ المبادرة التأويلية" .
مجلة فن السرد | قراءات ودراسات


إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا