رَبْطٌ خاطِئ
(الأهبلُ وحده مَن يفرح بالانتقال من سجن صغير إلى سجن كبير)
زكريا تامر
استوديو القناةِ التلفزيونيةِ والكلُّ يتأهّبُ للتصويرِ ذلك المساء...شابٌّ ترتعدُ أقصوصتُه بين يديه، والعَرقُ ينهمر دون انقطاع من جبينه رغم تدخلات الموظفة المكلفة بالمكياج؛ كانت تساوره فكرة الانسحاب الذي بالتأكيد لن يُقبَل في تلك اللحظة.
الفضاءُ أشبه بخليةِ نحلٍ مضطربَة، الأضواء تلسع الوجوه بحدتها، والكاميرات شاخصة، والفنيّون يركضون بين المعِدّات والديكورات، أما صوت الجمهور الحاضر فكان أشبه بضجيج سوق أسبوعي يصمّ الآذان.
في ركن منعزل جلس يراجع نصّه، أصابعُه ترتجف، وينازعه صوتٌ داخلي يُلِحّ عليه بالانسحاب قبل فوات الأوان.
ارتسَمَ عنوانُ البرنامج على شاشة ضخمة في صدر القاعة: "القــــــاص"...ظهر المتنافسون واحدا تلو الآخر، يدلي كل منهم بدلوه أمام لجنة مكوّنة من حُذّاق الحرفة، فيعرض موهبته على المباشر تحت مشرط النقد، الجائزة مغرية: مبلغ مالي كبير، نشرُ مجموعة قصصية للفائز أو الفائزة، ناهيك عن شهرة واسعة تضمنها القناة الأكثر مشاهدة في البلد.
دوّى صوت المنشطة تنطق اسمَه، تقدّم نحو الخشبة بتثاقل شديد، والعرق ينقذف في اتجاه ورقة الأقصوصة حتى حَجَب بعضَ أحرفها، تلمَّظَ لُعابَه ثم أطلق صوته في البداية كهمس خافت، لكن سرعان ما بدأ يستعيد ثقته، لا سيما عندما تفادى أعين الحكام المركِّزة بصرامة؛ فقد كان يحدِّق في العتمة خلف الأضواء تارة، وفي الجمهور تارة أخرى.
ولما أنهى قصته، صفّق الحاضرون، فابتسم ابتسامة تحرُّرٍ خفيفة، كما خفّت حدة تساقط حبّات العرق، لكن تلك الابتسامة لم تدم طويلًا؛ فقد صاح فجأة رئيس اللجنة دون أن تعطيه مقدمة البرنامج الكلمة:
"يا ولدي، ارتكَبْتَ خيانةً سردية فادحة، إنه Faux raccord قصصي؛ بطلُك في أول النص اسمه محمد، فلماذا تحوّل فجأة في الختام إلى السيمو؟!
منحَتْهُ مُنشّطة البرنامج حقَّ الرد، لكنه اكتفى بشكر لجنة التحكيم، ثم انسحب مباشرة من أمام المرآة إلى سريرِه، بعدما أطفأ ضوءَ غرفته والهاتفَ معًا.
مجلة فن السرد | محاكاة



إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا