القصة القصيرة المغربية الآن: نضج فني أم انتكاسة إبداعية؟ | مصطفى لغتيري
بقلم: القاص مصطفى لغتيري
عبر تاريخها الطويل نسبيا، مرت القصة القصيرة في المغرب بعدة مراحل، وأكاد أزعم أن كل مرحلة من هذه المراحل هي بالفعل ابنة شرعية للظروف المحيطة بها اجتماعيا وثقافيا، فغني عن القول إن الأدب بصفة عامة يتأثر بالسياق الثقافي الذي يحيط به أو الذي ينتجه، بما في ذلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقاقية، فالتجارب القصصية الأولى التي تمتعت ببعض النضج الفني كانت تصارع من أجل إثبات الذات في مجتمع يناضل من أجل أن ينضو عنه ثوب التقليد، ليتردي بذلة الحداثة والتحديث بما لها وما عليها، كما كانت ثيمة الاستعمار حاضرة في هذه النصوص التي عاش مبدعوها في تلك الفترة الحالكة من تاريخ المغرب، وقد حاولت نصوص تلك الفترة -من أجل تحقيق أهدافها الفنية والدلالية- توظيف لغة تتميز بالمتانة والفصاحة، مهتدية ببعض النصوص التراثية وبكتابات أدباء المهجر خاصة جبران خليل جبران، ومستلهمة في سعيها لخلق نص قصصي محلي النموذج المشرقي، الذي رسخه رواد الكتابة القصصية في مصر تحديدا وبعض الدول العربية التي ظهرت فيها بواكير النصوص القصصية العربية.
وفي مرحلة لاحقة وخاصة في سبعينيات القرن الماضي، طغى الهم الاجتماعي على الوضع السياسي والمجتمعي، وانعكس ذلك على ما هو ثقافي، فتملك القصة وهم النضال الفني من أجل مجتمع أفضل، لذا انتصرت القصة القصيرة للفئات الفقيرة والمهمشة لتمنحها صوتا، تعبر من خلاله عن همومها وطموحاتها، محاولة في بعض النصوص أن ينعكس ذلك على لغة هذه القصة، فوظفت ألفاظا وتعبيرات عامية، حاولت من خلالها أن تتماهى مع الشعب في رؤيته للحياة، وفي مقاربته لهمومه وأوهامه وطموحاته، ثم جاء جيل من القصاصين المغاربة، اقتنع بأن أهم نضال تخوضه القصة هو القصة نفسها، وذلك بتطوير إبداعيتها والاشتغال على لغتها عبر التكثيف والتخلص نهائيا من وهم عكس الواقع، والانشغال مقابل ذلك بجماليات الكتابة من خلال الفانتستيك والأحلام وما يسمى بالميتا قصة، وكان تأثير الكتابة عبر نوعية التي تزعمها بعض الكتاب المشارقة على أسلوبهم، وخاصة تلك الموجة التي احتفت باللغة باعتبارها أهم ما في النص القصصي، فعمدت إلى الانشغال بها عن باقي عناصر الكتابة القصصية الأخرى، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل مس التكثيف جنس القصة القصيرة كذلك مع جيل التسعينات وبداية الألفية، وتقلصت- نتيجة لذلك- مساحة المكتوب، فانتشرت الأقصوصة والقصة القصيرة جدا، والقصة الومضة، منسجمة مع عصر أصبحت سمة السرعة والاختزال طاغية فيه على جميع المجالات. كما أوغلت الكتابة القصصية في التجريب محاولة اكتشاف قارات إبداعية جديدة متأثرة في ذلك ببعض الكتابات التي حاولت ملامسة عمق اللاوعي الدلالي والفني، متأثرة بتجارب قصصية في أمريكا اللاتينية.
ورغم هذه التطورات مازال هناك في الفترة الراهنة - حسب ما اطلعت عليه من نصوص- قصاصون تستهويهم القصة كما ظهرت عند الرواد، من خلال التشبع بفلسفتها الأصلية والأصيلة، المبنية أساسا على محاكاة الواقع، ورسم الشخصيات وكأنها شخصيات واقعية من لحم ودم امتدادا لما نعايشه من أشخاص، ورصد الأحداث ومراكمتها بكثير من الاهتمام بالتفاصيل، وكأن الكاتب وظيفته الأساسية هي تصوير الواقع بما يزخر به من وقائع وتناقضات ومشاغل وهموم ووجوه متعبة، نكاد نعرفها، وكأنها تخطر بيننا في الحومة والدرب والشارع.
يحاول الكاتب عبر هذه التجارب القصصية أن يكون وفيا لفعل القص، كما تعلمناه على يد الرواد، لذا تجده مصرا على تصوير الشخصيات بملامحها الواقعية ومطاردة الأحداث بنوع من الدقة، محاولا من خلال مراكمتها توليد المعنى وخلق الأثر الذي تخلفه القصة في القارئ ، على حد تعبير الكاتب الأمريكي ادغار ألان بو.
القصة مع بعض هذه التجارب التي اطلعت عليها مؤخرا لكتاب جدد، تميل عكس ما هو متداول في موجة القصة التي ترسخت قبل عقد من الزمن تقريبا والمتميزة بالاختزال والتكثيف والرمز والغرائبية، نجد داخل متونها كل شيء واضحا، يتميز بلغة سردية محايدة، تواصلية بامتياز، وكأنها تحمل عبء تبليغ رسالة ما أو الإفصاح عن قناعة أو تجلية لغموض شابَ الأحداث بما يماثل العقدة، من أجل إبرازه في نهاية القصة، فتشعر وكأنها مجرد وسيلة وليست جزءا من القصة نفسها.
نتيجة لما تقدم يحق لنا أن نتساءل: -هل نحن إزاء نضج قصصي، أم ببساطة إننا أمام انتكاسة فنية تعتري فعل القص في المغرب؟
مجلة فن السرد | زوايا


إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا