أَقْنِعَةٌ بَالِيَة | أحمد شرقي | قصة

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

مجلة فن السرد

 

قصة قصيرة أحمد شرقي أقنعة بالية


أَقْنِعَةٌ بَالِيَة

أن تُدركَ ما لا يُدركه الآخرون، هو جحيمٌ لا يُطاق...

(كافكا)

   نادِر الذي دأَب على مساعدةِ أبيه في بيع الملابس المستعمَلة، لم يحلم أبدًا بالتمثيل أو تقمّصِ شخصياتٍ أمام الجمهور أو الكاميرا.

لكن قصته بدأت بتحفيـزٍ مُبالَغٍ فيه من أصدقاء الحيّ، بعدما كان يتفنّن في اللعب بملامحه مثل (جيم كاري)، مقلِّدًا شخصيات معروفة في الدرب أو البلد، فيَضحَك أصدقاؤه حتى تنكشف حلوقهم، ويُصفّقون حتى تنمَل أيديهم...صوّروه ونَشروا مَقاطِعه حتّى اشتُهر في مواقع التواصل الاجتماعي، وأكدوا له أن موهبتَه في التقليد والإضحاك نادرةٌ، ويجب ألا تذهب سُدى.

آمَن بالفكرة، وتذكّر أنه حصل على شهادة البكالوريا ذلك العام، ولا بأس بتجريب حظه في مباراة المعهد العالي للمسرح؛ لعل ما يقولونه صحيح، وقد يصير يوما ما ممثلا، وربما يغتني.. ويدشن لأبيه (براند) عالمية للملابس، عوضًا عن المحل المهتـرئ لبيع البقايا القديمة منها.

لم تكن لديه أيَّة فكرة عن المسرح، أو عن احترافه، لكنه لَبِسَ، ذات صباحٍ، قميصا أسود كالأقمصة التي يرتديها أغلب فناني (الستانداب) في عروضهم الفكاهية، وجَمَع مِلَّفهُ بعد قَبوله رقميا.. ثم توجّه نحو الحلم بالعاصمة. هناك فاجأه أحد أعضاء اللجنة بسؤال لم يكن في الحسبان: هل قرأت "فن الشِّعر" لأرسطو؟... تسمّر في مكانه دون رد.

أخبـره الممتحِنُ أن للممثل المسرحي المحترف (بروفايل) معينًا، وليس كل مَن يُضـحِك الناسَ في الشارع يمكنه أن يؤدي أدوارًا أمام الجمهور وعلى الخشبة، يجب أن يكون لديه -على الأقل- قدْرٌ مقبول من المعلومات الفنية والأدبية.

عاد بخُفَيِّ حُنين خائرَ العزم، قاطعًا عهدًا على نفسه بألا يحلم بالشهرة أو التمثيل مجددًا، وأن ينهي علاقته بأصدقائه الذين شجعوه على ذلك الحلم، أو بمعنًى أدق: الوهم، وأن يطلب منهم حذفَ كل تلك المقاطع التي صوروها له في لحظات فرح تلقائية.

رافق أباه، في اليوم التالي، إلى سوق الملابس البالية، وفي الطريق سأله عن مصيره بعد البكالوريا وبعد انقضاء أيام تلك العطلة الصيفية! أجاب نادر: كلية الحقوق أو كلية الآداب، لم أحدد بعد.

صادف ذلك اليوم وصولَ حُزمةٍ جديدة من الملابس المستعملة في أوروبا إلى محلّهم، فساعد والده في حملها وفتحها، ثم صنّف ما تحتويه من ملابسَ بحسب النوع. كانت الحزمةُ ثقيلةً جدا على غير المعتاد.

وبعد أن أنهكهما العمل الشاقّ جلسا.. مدّ الأب يدَه إلى قميصٍ أخضرَ طُبع عليه شعار ماركة عالمية، وأهداه لابنه قائلًا: إنه ثوب رفيع الجودة ومن ماركة لا يُشقّ لها غُبار، وثمنُه في سوق الجديد قد يفوق ثلاث مائة يورو.

في اللحظة ذاتها خلع نادر قميصه الأسود الذي أجرى به امتحان المسرح، ولبس الأخضر، فأحس بغيبوبة سريعة لم تتجاوز خمس ثوان، وكأنه تلقى لكمة قاضية، ثم تملَّكه تحوُّل في الصوت والملامح، فنظر إلى أبيه بتحدٍ وقال: يا صاح، قُم والعب معي جولة ملاكمة، هيا! أمْ أنت خائف؟ هيا انهض..

استَغرَب الأبُ من كلام وحركات ابنه المعروف بالهدوء والخجل، فاندفع نحوه ليخلع عنه ذلك القميص المسحور الذي أصابه بالجنون، لكنَّ نادرًا ارتمـى على سترة أخرى خضراء زيتونية كانت قريبة منه ولبسها، فصار كمحارب قديم؛ بدأ بالمشي مائلًا برأسه وكتفه نحو اليمين، ونمت له حدبة... تغيـرت ملامح وجهه، واشتعل الشيب في رأسه فجأة، ثم انطلق في سرد انتصاراته في المعارك الضارية التي خاضها...، تأكّد الأب أن تلك الحُزمة ملعونة، فاستجمع قواه ونزع عن نادر بالقوة ما لبسه، وأغلق باب المحل بعدما عاد ابنه إلى حالته الطبيعية، كما حذّره من أن يعود إليه، حتى يدبّر أمرَ تلك الحزمة.

بعد أيام، احتار أبناء الحي في أمر غياب نادر عن الأنظار، ففاجأهم بمظهر أنيق وهو يمرّ أمامهم، كما لو كان مديرًا عامًّا لشركة كبرى، فقد كان يلبس قميصًا أصفرَ، وربطةَ عُنق مزركشة، وبلحية قصيرة لم تنبت له من قبلُ، قطع اندهاشهم هذا وحياهم بلغة فرنسية منمّقة:

Bonjour les amis, comment allez-vous !

وقفوا مشدوهين ومستغربين؛ يتساءلون: كيف لم يُقبَل هذا الموهوب في معهد المسرح، وهو الذي يتقن الأدوار الجادة كما الهزلية؟ ! .

 نُشرت هذه القصة في الملحق الثقافي لجريدة العلم بتاريخ 23.10.2025

أَقْنِعَةٌ بَالِيَة | أحمد شرقي | قصة

مجلة فن السرد | محاكاة



التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث