تعالى صوت الأذان لصلاة الفجر، تلاه صوت باب بيتنا الخشبي وهو يفتح، جدي وأبي ذاهبان إلى المسجد. دبت الحركة في البيت، جدتي وأمي بعد أدائهما لصلاة الصبح شرعتا في أعمالهما اليومية. جدتي تطحن حبات الشعير في الرحى بينما أمي تحلب بقرتنا السمينة.
مازلت مستلقيا في فراشي عندما ملأ المكان رائحة الخبز الشهي، قمت مسرعا وكدت أتعثر في جلبابي الصوفي، توجهت نحو بهو المنزل وكانت خيوط الضوء تتسلل برفق من فتحة السقف، كان جدي يحب أن يتناول وجبة الإفطار في ذلك المكان، ويقول مبتسما:
ـ ما أجمل أن تتناول الطعام وأنت تتنفس هواء الفجر النقي، إنه خال من أنفاس المنافقين.
جلست قربه كالعادة، نظر إلى ساعته ثم مد يده إلى مفتاح تشغيل مذياعه الثمين، إنه الوحيد في القرية، إرث عزيز ورثه عن والده الذي تلقاه كهدية من أحد الأجانب الذين كانوا يمرون عبر القرية بين الحين والأخر، ذلك كان قبل فرض الحماية.
- (هنا المغرب… الساعة تشير إلى السادسة صباحًا، نفتتح بثّنا لهذا اليوم المبارك بتلاوة آياتٍ بيّنات من الذكر الحكيم. فاستمعوا وأنصتوا لعلكم تُرحمون).
انساب صوت الشيخ وهو يتلو آيات من القرآن بينما كنا نتناول خبز الشعير الساخن المغمس في زيت الزيتون والعسل، مع كؤوس الشاي بالنعناع وأيضا الحليب الساخن مع الزعتر، كانت كل لقمة كالنعيم، هبة من أرضنا الغنية التي أصبحت هدفا للمستعمر الجائر، مد يده إليها يستنزف ثرواتها بلا أي وجه حق.
- كانت هذه تلاوة مباركة من القرآن الكريم، وبه نبدأ صباحنا… صباح الخير للجميع. والآن ننتقل إلى نشرة الأخبار، لنوافيكم بأبرز المستجدات الوطنية والدولية.
دائما عند سماع هذه العبارة من فم المذيع يلتزم الجميع بالصمت حتى انتهاء نشرة الأخبار، التي يستمع لها جدي وأبي باهتمام بالغ ليقوما لاحقا بنقل أخر مستجدات القضية الوطنية لبقية رجال القرية.
- من الرباط بتاريخ الخامس عشر من نوفمبر عام 1955، الساعة تشير إلى السادسة والنصف صباحا، وأثير الإذاعة الوطنية ينقل لكم نَفَسًا من الأمل وشعاعًا من الرجاء، فالبلاد تعيش على وقع انتظار كبير، فكل المؤشرات تؤكد أن عودة جلالة الملك محمد الخامس من منفاه قد أضحت وشيكة. لقد صمد الشعب، وواجه، ونازل المحتل بالمقاومة والكلمة والموقف، وها هو اليوم يوشك أن يقطف ثمرة صبره الطويل من فاس إلى مراكش، من الدار البيضاء إلى الرباط، العيون تترقّب، والقلوب تخفق، فالغد ربما يحمل عطر الوطن المسترجع.
كانت ملامح جدي وهو يستمع إلى الأخبار تشع سرورا، لم أكن أعلم مقصد المذيع لكني كنت سعيدا بسعادته. بدأت الشمس تداعب بخيوطها الأولى الأرض. خرج الرجال يحرثون الأرض ومن بينهم كان جدي وأبي. الكل يعمل بجد وهم يرددون الصلاة على النبي، والدعاء لله طلبا للمطر، كي يكون المحصول وفيرا.
خرجت النساء يحملن القرب لجلب الماء من النهر، بعدها كما العادة وقبل أن تشتَّد الشمس يتوجهن إلى المراعي يجمعن الكلأ للمواشي، والحطب، يضعنه في حزم يشددنها على ظهورهن بالحبال. بعد أن يعدن من جلب الماء والحطب والكلأ، تنشغل كل واحدة بطهي الغداء.
حين يعود الرجال من الحقل، يجدون الدار قد عُمّرت بالدفء، والقدر يغلي، والماء بارد في القلة، ولا يُسأل: من فعل؟ لأن الكل يعلم أن النساء هنّ عماد البيوت، النساء شقائق الرجال، لا يشتد البناء إلا بهن، بجانب سواعد الرجال.
-الساعة تمام التاسعة ليلاً، بتوقيت المملكة المغربية. نحييكم مستمعينا الكرام أينما كنتم، وننقل إليكم نشرة أخبار المساء. نُطلعكم على أبرز المستجدات الوطنية والدولية، كما عوّدناكم، ثم نُتمّ السهرة بباقات من الأناشيد والأغاني الوطنية، التي تلامس وجدان كل مغربي أصيل، تابعونا، فمعكم نبقى على صلة حتى منتصف الليل. ا
لليل في الريف خصوصا في نوفمبر يكون باردا، نرتدي جلاليب الصوف التي نسجتها لنا الجدة. ونشرب الحريرة الدافئة بينما نستمع إلى المذياع. الترابط العائلي، الابتسامات، المحادثات، كلها تحيطنا بهالة من السكون والألفة والمودة. هرعت كعادتي إلى غرفة جدي، لأنام بجانبه، يسرد لي قصص أبي عندما كان في مثل عمري. حتى تغفو عيناي، وأنتقل إلى عالم الأحلام.
في اليوم الموالي، خفت الحركة في القرية، كانت السماء تنهمر مطرًا رقيقًا تعانقه الأرض بكل حب وفرح. تجمعنا حول جدي يحكي لنا بعض النوادر، بينما نستمع للموسيقى المنبعثة من الراديو. فجأة، انقطع البث وتلاشت الألحان ليحل مكانها صوت المذيع:
-الساعة تشير إلى تمام الحادية عشرة صباحًا، هنا إذاعة المملكة المغربية. أيّها المواطنون الكرام، اليوم، السادس عشر من نونبر سنة 1955، وفي هذه الأثناء، تحطّ طائرة جلالة الملك محمد الخامس، حفظه الله، بمطار طنجة، حيث يحتشد آلاف المواطنين في استقبال مهيب، تملؤه مشاعر الفرح والبهجة. الهتافات تتعالى في أرجاء المدينة: "الله، الوطن، الملك"، والأعلام تُرفع عاليًا، والقلوب تخفق بحب الوطن والوفاء للعرش. إنها لحظة فارقة من تاريخنا الحديث، يعيشها المغاربة جميعًا بكثير من الاعتزاز والأمل، ويسجلها الوطن بأحرف من نور في سفر المجد والحرية
ما أن سمع الجد الخبر حتى نهض فجأة كأن الزمن أعاده شابا قويا، اندفع هو وأبي نحو الخارج تتلاحق خطواتهما، والفرح يتفجر من عيونهم وحناجرهم تهتف: عاش الملك.
تحت المطر، لم يُبالِ أحد منهم، لم يتوقفا، راحا يطرقان الأبواب ويصرخان: "رجع سيدنا" خرج الناس مسرعين، حفاة، مبتلين، لا يحملون سوى قلوبهم، تجمعوا وسط القرية يهتفون ويُكبّرون، المطر ينساب فوق وجوههم، ودموع الفرحة تتساقط بلا توقف، إنه الخلاص، الحرية، الاستقلال. لقد عاد الوطن في هيئة ملك.
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا