الواقع الاجتماعي في رواية "دار القرار" للكاتب عادل الصافي | كمال العود

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
مجلة فن السرد

مجلة فن السرد


  تعتبر الروايةُ الجنسَ الأدبي الأكثر قدرة على تصوير الواقع الذي يعاني في الغالب من الشتات من حيث الرؤية والوضوح؛ فالسرد الروائي يتيح إمكانيات متعددة في الربط بين الواقع والخيال، في صور ورموز وإيحاءات نعبر بواسطتها عن أفكارنا ومشاعرنا. 

وباعتبار النص الروائي نصا سرديا تخيليا، فإنه يمثل الصورة التي تعكس الواقع بتفصيلاته وجزئياته، حيث يعد الواقع الاجتماعي أهم قضايا الرواية، لما يحتويه من تفاعل بين عناصر المجتمعات، ثقافيا وسياسيا وتاريخيا... دون حصول الانفصال أو الانقطاع بينها، لأن ذلك سيفقد السرد الروائي دوره الحقيقي عند محاولة تجاوز تلك العناصر، أو تجنب الحديث عن أمور بالغة الحساسية خاصة تلك المرتبطة بالطابوهات.

  من هنا، فالقضايا الاجتماعية بمفهومها الشاسع، وجدت ضالتها في السرد الروائي، وهذا ما تبرزه الرواية كجنس أدبي يتميز بقدرته الفائقة على احتواء تعقيدات الحياة الإنسانية، وتسجيل تفاصيلها المتغيرة، سواء في الجوانب المادية، النفسية أو الاجتماعية.

رواية "دار القرار" للكاتب المغربي عادل الصافي، صادرة عن دار السلام للنشر بالرباط في 2024. تقع في 208 صفحة من القطع المتوسطة، وقد قسمت الرواية إلى ثمانية فصول، كل فصل منها يحمل عنوانا يتناسب مع الفكرة والمضمون.

  إن الوقوف عند العنوان يمثل منهجا نقديا لفهم العمل من بدايته، فهو بمثابة نقطة البداية لتحليل بنية الرواية وفهم طريقة بناء الروائي لأفكاره وشخصياته وأحداثه، فالعنوان يتكون من كلمتين: "دار" ويقصد بها المكان أو المسكن، في حين "القرار" تعني الثبات والاستقرار والإقامة الدائمة والبقاء الأبدي، وعدم الزوال أو الانتقال. 

أما "دار القرار" فتدل على دار الاستقرار والثبات والبقاء الأبدي، وهي الآخرة التي لا تزول ولا تفنى، وذلك في مقابل الحياة الدنيا التي هي متاع زائل ومنقطع. 

في القرآن الكريم، يبين الله عز وجل أن الآخرة هي دار القرار والاستقرار...وأن على الإنسان أن يعمل لها بطاعة الله بدلا من الانشغال بالدنيا الفانية، وفقا لقوله تعالي 'وإن الآخرة هي دار القرار' آية 39 سورة غافر.

  أما غلاف الرواية باعتباره الواجهة البصرية الأولى التي تعرف القارئ بالعمل، فهو عبارة عن خلفية حجرية قديمة وباب مظلم يحمل طابعا غامضا، ما يعطي إحساسا بالغوص في قصة عميقة وعاطفية.

  تحكي رواية "دار القرار" عن شخصية عمر الذي يعيش في حي من أحياء المدينة المغربية، ومساره في الحياة من الطفولة لشبابه وصولا لموته المفاجئ. تبدأ الرواية بانتظار البطل لنتائج الثانوية العامة، فكانت الصدمة؛ لقد أخفق في تحقيق نتيجة مرضية "ليبقى معلقا بين بسمة النجاح وخيبة الميزة المحققة" ص 13، أصيب بعدها بصدمة نفسية " جلس وحيدا في ركن منزو يشكو حاله لنفسه" ص 13، وليخرج من أحاسيسه المهزومة قرر قضاء عطلة الصيف في البادية كرحلة علاج طبيعية، وأيدته في قراره والدته رقية.

  شد البطل الرحال للبادية على وقع نصائح أبيه "الحاج محمد" ، " الحياة مطبات، تهوي بنا وقوعا إلى ظلمات الشقاء، نصمد ونخرج من جديد لعيش فرص أخرى تقدمها لنا، ونستمر مقاومة حتى تفنى أجسادنا وتشيخ إرادتنا ونرحل" ص 34.

بعد أيام في البادية، نجى عمر من موت محقق بعد لسعة عقرب سوداء " كان عمر يرتعش بفعل الوجع، نبضات قلبه في ارتفاع والألم يغرز أنيابه في جسده الهزيل، وسط تلك اللحظة الجهنمية استطاع بشق الأنفس أن يشير إلى مكان الألم قبل أن يتمتم...ع..ق..ر..ب" ص 66.

بعد فترة الصيف التحق البطل بالكلية العسكرية، لكي لا نخرق مراحل التشويق للقارئ لن أقدم تلخيصا كاملا لكل أحداث الرواية فهي جديرة بالقراءة والتأمل.

  يمكن اعتبار هذا العمل الأدبي رواية اجتماعية بالأساس لما فيها من مواضيع اجتماعية مهمة فكما ذكرت في السابق فالرواية الاجتماعية هي رواية أدبية تناقش في متنها ظواهر أو مشاكل اجتماعية سائدة في العصر، مثل الجنس والدين والعرق والطبقية الاجتماعية والعنصرية والعلاقات الاجتماعية وما إلى ذلك. وقد تناقش الروايات الاجتماعية مواضيع أعقد من ذلك مثل الهجرة والعمل والفقر والعبودية والعنف ضد المرأة وارتفاع نسب الجريمة، تدهور الخدمات، الفساد الإداري. كما يمكن أن تناقش الرواية الواحدة أكثر من موضوع واحد وهذا ما تمثل في رواية "دار القرار" التي ناقشت مجموعة من المظاهر الاجتماعية والقضايا الوجودية النفسية التي يمكن إجمالها فيما يلي:

الفشل الدراسي: تمثل في تحقيق عمر لنتائج دراسية غير مرضية جعلته يعيش في الصدمة النفسية تجلت في ردود فعل عاطفية من خلال القلق فقدان الثقة بالنفس كما وقع لصديقه يحيى الذي فشل في تجاوز عتبة السنة الأخيرة من الثانوية العامة "جاء عمر ليقوم بشأن صديقه، ليرعاه في وحدته القاتلة هذه، وضع يديه تحت إبطي يحيى ليساعده على القيام، فالحسرة تأكل الإنسان وتنهش استقامته...، فالاثنان بحاجة لمن يخفف سعير حالهما" ص 24.

تجليات التحول في البادية: وذلك عبر رصد مظاهر البداوة وتجليات التي عرفتها البادية على مستوى المكان والفضاء والشخصية "تغيرت معالم البيت كأنه بناية جديدة إلا من بعض تفاصيله، واختفت المطمورة من الوجود" ص56.

الخرافات السائدة داخل المجتمع القروي: أبرز الروائي ذلك من خلال الإشارة إلى الأفكار والعادات التي تقوم بها الإنسان البدوي "نباح الكلاب في القرى والأرياف نذير شؤم" ص 55، " روث الحمير إن وضع على الجرح قد يخفف ألم لدغة العقارب..." ص 67.

الواقع الأليم للمستشفيات: صور الكاتب حال الواقع المرير للمستشفى عبر تجليات الإهمال ونقص الإمكانيات ومعاناة المرضى في الأقسام الاستعجالية، التي تشكل بيئة خصبة للصراعات النفسية (القلق، الخوف، صراع داخلي بين الحياة والموت...)، "المسعفين في إجازة، إجازة مفتوحة دون بديل يعمل بالنيابة" ص 67، "داخل غرفته الجنوبية قابله مكيف علوي، كان بجانبه خمسة مرضى آخرون، كان التوجع في كل الأرجاء وتخللت الآلام الجدران البيضاء، الاكتظاظ واقع لا يرحم ولا مجال للشكوى، الوضع هنا لا يرفع معنويات المرضى بل يقربهم من دهاليز الموت البطيء" ص 74.

الهجرة: كظاهرة اجتماعية إنسانية مرتبطة بالمكان ومتطلبات العيش ومثلها هنا قاسم ومعاناته في المهجر " تسير الحياة بسرعة كبيرة، حتى من سبقوني إلى هذا الحلم الزائف لا يملون السعي وراء لقمة العيش بأي وسيلة كانت" ص152، "اقتادتني شاحنة مع البقية من المعذبين إلى المجهول، إلى العدم، إلى النهاية، كلها تخمينات وضعناها غي أذهاننا وكان الموت الأفضل من بينها" ص182.

البعث بعد الموت: تمثل ذلك في الاستعانة بأسطورة البعث بعد الموت كمفهوم عالمي قديم يتجلى في أساطير ثقافات مختلفة، مثل طائر العنقاء الذي ينهض من رماده، وقصة الإلهة عشتار وزوجها تموز، وكتاب الموتى المصري القديم الذي يصف رحلة الروح للحياة بعد الموت "المرض خطوة إلى الدار الآخرة" ص86.

  رغم أن الرواية هي باكورة أعماله السردية، إلا أنها حملت سمات روائية متفردة، لقد ولد الروائي –عادل- كاتبا كبيرا، ذلك أن روايته استوعبت مكونات الإبداع الروائية الجوهرية من شخصيات وسرد ولغة وزمان ومكان وبناء فني، وأنها تفاعلت مع بعضها في شبكة متينة من العلاقات الفنية. وراء تلك السمات الفنية روائي شاب سعى جاهدا إلى تطوير أدواته وآلياته تطويرا سلك فيه سبيلا داخليا، أي طورها من داخل تلك الأدوات لأن الرواية من الفنون الأدبية التي تمتلك القدرة على التطور، ومواكبة مستجدات العصر، نجح في رسم شخصياته الروائية بالتفاصيل الدقيقة التي ساهمت في الكشف عن ملامحها ومعالمها الأساسية، وحاول الروائي الشاب في بعض الفصول تكسير تراتبية الزمن بعيدا عن التمسك بالتتابع الزمني المنطقي، وقام برصد الأمكنة الروائية المختلفة.

وما لفت نظري كالقارئ، ذلك الانسياب والتدفق في السرد والوصف والحوار، فعندما يشرع القارئ في قراءة الفصل الأول، يدفعه الفضول للفصول المتعاقبة، لا يهون عليه أن يتركها قبل أن ينهيها، لما فيها من إثارة وتشويق، ولما يقابله من دهشة ومفاجآت.

  ما يلفت النظر في الرواية هو الحوار المتعدد الأنماط من حوار داخلي وآخر خارجي، الذي يعد لبنة أساسية من لبنات البناء الروائي في هذه الرواية، علاوة على ما في توظيفها من مهارة واقتدار وجدارة، فتجدهما يتمازجان مع بعضها البعض، ويتدخلان في نفس الوقت مع السرد والوصف. فقد تمظهر الحوار في الرواية بشكل متداخل ساهم في اثراء مقاصد الفعل الروائي للكاتب

كما يحسب للروائي استعمال نمط الرسالة كتقنية سردية لتجسيد التفاعلات النصية وإحداث حراك فكري وتجلى ذلك في فصل "رسائل من الغربة" والذي امتد من الصفحة 149 إلى 204.

  أما الوصف فقد برع الكاتب في وصف الأماكن والشخصيات والأحاسيس ونذكر من ذلك:

" كانت الفتاة في العشرينيات من عمرها، شعرها البني القصير يلاقي صعوبة في ملامسة كتفيها، عطرها الفائح يعطي أول انطباع عنها، قد تكون من طبقة ميسورة..." ص 35، "توالت خطوات عمر حتى صارت صومعة المسجد على مرمى عينيه، بياضها الناصع المنبعث من هضبة البلدة تخللته بعض الشقوق واخضرت جهته الشمالية التي لا تزورها شمس الصباح العذراء..." ص 51.

  لقد مثلت رواية " دار القرار" للروائي عادل الصافي نموذجا متفردا ومتميزا للنصوص الروائية التي تركز في بنائها الفني على القيم والمبادئ الاجتماعية والأخلاقية والثقافية...، وتبقى هذه القراءة محاولة لكشف خفاياها المتعددة وتيماتها المتشعبة.

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات 


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث