في القرية المنكوبة، يمرّ نهر طويل لا يعرف الماءَ إلا في فصل الشتاء، يقسم الضفتان كأنّه سيفٌ شرب من النار ففلّق الحيَّين. الحيُّ الشرقي للأغنياء، والغربي للفقراء، وكان قدري أن أفتح عينيَّ في بيت مهدوم بالحي الغربي، نرقد تحت رحمة النجوم بين أربعة جدران عارية من السقف، ونستفيق كلّما تهلّل الصباح وأرخت الشمس أشعتها الدافئة.
حين أعود من المرعى، حيث ملأت الغنمُ بطونها بالعشب اليابس، تدفعني مهاوي الطفولة لأعبر النهر الخاوي إلى الضفة الأخرى. ألتقي بأبناء النبلاء؛ أراهم بلباسهم المهيب، ويرونني بلباسي الممزق، غير أنّ براءة الطفولة لا تعترف بالغنى والفقر، بل تختزل كلَّ هذا في شيء واحد هو: ”لعبة شرتو.‟
كانت القرية بلا أعمدة إنارة. نجتمع في ساحة كبيرة تحت نور القمر الناعس في جوف السماء، نركض في الأزقة الصامتة كما لو أننا أشباح تغزو كوكبًا فارغًا، ونعود إلى الساحة فننقسم إلى فرق، كلٌّ منا يعتلي ظهر صديقه، فنترامى فيما بيننا حذاءً مهترئًا، ومن سقط منه الحذاء ينزل ليحمل صديقه. تلك كانت لعبتنا المفضلة التي نختتم بها كل ليلة اجتمعنا فيها.
وذات مساء استثنائي، عدت كما أعود دائمًا من المرعى، يهتز صدري شوقًا لممارسة تلك اللعبة، حكّمت الأقفال على الأغنام، وعبرت النهر إلى الحي الشرقي. لكن حين وصلت، وجدته مختلفًا كأنما الله استبدل قومًا بآخرين: الرجال والنساء على عتبات البيوت، والأبناء قليلون في الخارج. دفعتني قدماي إلى الساحة، فإذا بي أسمع الأطفال يتحدثون فيما بينهم. نطق هذا قائلاً:
ـ أغلفة بيضاء.
وهمس آخر في أذن أبيه:
ـ دفاتر وأقلام.
أمّا تلك الفتاة التي كنا نتسابق إليها كما تتسابق الفراشات إلى النور، فقالت لأبيها:
ـ أريد محفظة وردية.
وذاك الوسيم إدريس يحمل شيئًا غريبًا بين يديه ويقول لوالدته:
ـ سأدرس جيدًا.
كل ما كانوا يتلفّظون به كان غريبًا على مسامعي؛ فالرعاة أمثالي لم يسبق لهم سماع ذلك. كل ما يعرفونه هو قربة ملتوية بخنشة "الشتبة" لتحافظ على برودة ما فيها، سواء أكان لبنًا أو ماء، ثم ناي بثلاثة ثقوب تتخللها أصابع الرعاة عزفًا يزمرون به، وعصًا يتوكّأون عليها، أو بدل الناي، يكون كمان مصنوع من علبة مبيد ”العفريت‟ وقوس من شعيرات ذيل الفرس يعزفون به على أوتاره. هذه هي الأشياء التي يعرفها الرعاة. أمّا ما سمعتُه من أبناء الحي الشرقي، فلم أعرفه لا من قريب ولا من بعيد.
في خريف سنة ألف وتسعمئة وخمس وتسعين، استيقظت صباحًا لأسدّ جوعي بكسرة خبز وكأس شاي، وأخرج غنمي من مراحها كالمعتاد. وما لبثت أن أنهي خبزي، حتى سمعت أبي يقول:
ـ نظّفي وسخه وألبسيه أنقى ثيابه.
عرفت أنّ الغنم ستفتقد نغمات الناي، حين ألبستني أمي جوارب صفراء أصعدتها حتى ركبتيّ، ثم بنطالًا قصيرًا وقميصًا منزوع الأزرار غطّت به جسدي النحيف. خطفتني قبضة والدي نحو سور كبير يحيط بعدة بيوت مختلفة الألوان. وبعد مسير طويل بجانب السور، وقفنا أمام بابه الخشبي برهة، ثم جاء رجل نحيف فأمرنا بالدخول.
كنت أرمي بخطواتي بين أشجار الصفصاف دون معرفة ما سيفعلونه بي. كل ما كنت أعرفه آنذاك هو أوامر أبي: الالتزام بالصمت، وعدم التفوّه بكلمة أو القيام بحركة. دخلنا بيتًا صغيرًا يتربع فيه رجل بدين كأنما هو رئيس على كل شيء داخل الأسوار. كان يرافقني ملف برتقالي، وكأنني متّهم وقف أمام قاضٍ في المحكمة. كل حركة كان يتحركها ذلك الرجل البدين، كانت تشعرني بالقلق والخوف. وعندما أخذ الملف الخاص بي، بدأت بولة تعصرني وتحرق دواخلي دون رحمة. قلت في سرّي:
ـ ماذا أفعل هنا؟ هل أنا مجرم سيُطبّق عليه حكم الإعدام، أم فقط عقوبة حبسية سأقضيها داخل الأسوار وأخرج بسلام؟
كلها أسئلة حيّرتني، ولم أكن أجد لها جوابًا. كانت الثانية أمام ذلك الرجل البدين تمر كالساعة، والدقيقة كالسنة، وكنت في كل لحظة أنتظر منطوق الحكم في ملفي البرتقالي.
فجأة، استدرت برأسي أبحث عمّن رافقني، فلم أجده، بل وجدت نفسي ملتصقًا بكرسي خشبي أحدّق ببلاهة في ملصقات على الحائط التي تعلو رأس ذلك الرجل البدين ذي البطن المذلوق. ضغط على جرس بجانب مكتبه، فدخل رجل فارع الطول، مشتعل رأسه بالشيب، له أنف حاد يشبه منقار النسر، فأخذ بيدي إلى قاعة أخرى. دخلتها وأنا مذهول، ولحسن الحظ وجدت من هم بعمري لابسين ثيابًا خضراء وحمراء، متأنقين بشكل كبير، يحملون ألواحًا وطباشير، ويصرخون بأعلى أصواتهم مرددين سورة الفاتحة.
بدأت أشعر بالارتياح، إذ سبق أن مرّت الفاتحة بأذني، وتلعثمت بها صبيًا. جلست إلى طاولة خشبية مسطّرة بإتقان كما لو أنّ القلم قسمها نصفين عربونًا على عدم تجاوز حدودك.
كنت أقاوم صوتهم العالي الذي يشق أذنيّ ويريد أن يخرق طبلهما، وحتى إذا قاومت الصوت المرتفع، فمن سيقاوم ألم البول المحبوس بداخلي؟ وما هي إلا لحظات، حتى صاح الأستاذ في وجهي مدركًا عدم انتباهي، وكان صخبه ذاك كافيًا لإنزال البولة من أحشائي. بدأت أردد في قرارة نفسي: يا ويلي على حظي اللعين.
لم أكن أعرف ما سيفعله بي، لكن مهما فعل، فسيكون عقابه أرحم من عقوبة أبي. أخذ عصاه وجاء إليّ، فجلد يديّ بكل ما أوتي من قوة كأنني سارق أُمسك به داخل بيت أحدهم. وأقسم لو كان للجدران كبرياء لبكت رأفةً بي في ذاك المشهد الشنيع. كنت أبكي والدموع فيوضة لا تنتهي، ليس ألمًا من عصا الخرواع التي جلدتني، بل خوفًا من عقاب الأب إذا أخبروه بفعلتي. كنت واثقًا أنّني سأُعاقَب حتمًا، رغم براءتي وضعف حيلتي، سأُعاقَب رغم أنّهم المسؤولون عن إخباري بحق المرحاض وقت الدراسة، كلّهم مسؤولون، بما فيهم أبي. فلو وجّهوني قبل التسجيل، أو آن التسجيل، لما اعتبرتُ الإدارة محكمةً، ولا القاعة سجنًا ليس لي فيهما حق التخلّص من البول.
تقدّمت الأيام والشهور، وبدأت أُؤنس الدراسة والزملاء، وحتى الأستاذ، بل ألفتُهم حتى نسيت الناي والكمان والأغنام. لزمت أستاذي لعلّي يومًا أصير نحوه، وبدأت أحفظ الأناشيد، أولها أنشودة:
"أرسم ماما.. أرسم بابا..
بالألوان..
أرسم علمي فوق القمم..
أنا فنان."
حفظت الكثير والكثير، ولا سيما أنشودة ”الفتى النظيف.‟
وذات يوم، فاجأنا الأستاذ باستخراج الدفاتر المنزلية، قالها ورددها بصوت مبحوح، فخلق الرعب والفزع في نفوسنا. بدأ زملائي يرتعدون، وأخذتُ القلم برجفة تسكنني لأضع نقطة على حرف الثاء في كلمة ”ثعبان‟، لكن قلمي أبى أن يسيل مداده وينقذني من ورطتي. فكّرت مليًا، ثم نفخت في جعبته عسى أن يكتب عطفًا بي. وبعد نفخ ونفخ، شفطتُ مداده إلى فمي حتى امتلأ فاهي عن آخره كالذي ينفخ خدّيه لينفخ في المزمار. لاحظ الأستاذ انتفاخ خديّ والمداد الذي يسيل من شدقي، فعبس وصاح عليّ حتى اختلط حابلي بنابلي:
ـ ما بك أيها الأحمق؟
تلعثمت بدموع فيّاضة، محاولًا الحفاظ على المداد الذي ملأ فمي، وراسماً صورة عصا الخرواع بين عينيّ التي هي كبعبع يرعب كل صغير، غير مفصح للأستاذ ما أردت قوله، فبدأ الجلد من جديد.
ها أنا قد كبرت، وشخت، وغطى وجهي الشيب والانكماش. واليوم، بعد بلوغي الأربعين، أقف في المكان نفسه ماسكًا يد ابني. لقد تغيّر الكثير وراء هذا السور العتيق: جدران المدرسة، والحديقة، والأساتذة، وحتى المدير. المكان نفسه، لكن الزمان غير الزمان. خطفني سهو نحو الماضي البعيد، وانحدر الدمع من مقلتي، لأستفيق من غفلتي على صوت ابني وهو يقول:
ـ ما يبكيك يا أبتي؟ هل أصابك مكروه؟ أبرأسك صداع؟
سأل ألف سؤال وسؤال، وختامًا أنهى أسئلته وأتبعها قائلاً:
ـ هيا بنا اتجاه المراحيض، لأمسح بوجهك الكريم، فالرجال أمثالك لا يبكون.
ما أحسن جيلهم! بعمره، كنت لا أعرف مشرق الشمس ولا مغربها. بعمره، لم أكن أقوى على السؤال، ولم أكن أعرف من أنا ومن أكون وإلى أين أذهب، ولا حتى كيف أطلب قضاء حاجتي. هم الخلف لما سلف؛ فاصحبوهم وأحيطوهم علمًا بكل شيء، فإن الغموضَ غولٌ يرعب الصغار.
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا