يستعد المطر ليقارع زجاج النوافذ و يروي الشجر، إذ تكاثفت الغيوم الرمادية حاجبة خيوط النور، فغدا المشهد أشبه بغسق ساكن.
على قارعة الطريق، وقفا معا، يدا بيد ينتظران
وصول الحافلة التي ستقلها إلى مقر عملها، أصر أن يرافقها ككل مرة وهو يجر ساقه
المجهدة، التي راكمت مشاق الزمن.
تأخرت
الحافلة حوالي عشرين دقيقة، لكن الفتاة أبت إلا أن تكسر الصمت الذي يخيم على
الأجواء.
-أعشق هذه
الأجواء الشتوية التي تذكرني دوما بالطفولة، لكن شتاء الماضي لا يشبه شتاء حاضرنا.
-دوام الحال
من المحال يا بنيتي، من منا بقي على ما كان عليه؟ لكن نِعم المولى عز وجل علينا تجل
عن الحصر، ومن أصبح منا معافى في بدنه فذاك كنز لا مثيل له و لا شبيه. لا تنسي
ارتداء وشاحك الأرجواني، في المرة السابقة لم يرحمك السعال.
لم تكن تعي عمق ما عبر عنه، كانت كلمات اعتيادية تلتقطها أذنها عند حلول كل شتاء، ويردد حكم من حلب الدهر أشطره، وركن إلى بساطة الحياة وجمال تفاصيلها الصغيرة التي يهتم فيها بصمت.
وصلت الحافلة، أرخى الأب يد ابنته التي كان متمسكا بها بإحكام، كأنه يتمسك بتلك الطفلة ذات السبع سنوات خشية أن يفلت يدها، كتلك الجذور الملتوية في التراب يعانق بعضها بعضا. صعدت وهي تلوح لأبيها بيديها وابتسامة طاهرة تشق طريقها بين الخدود، جامعة معاني الشكر و الامتنان.
كان يراقبها في صمت ويحرسها
بعينيه الحنونتين التي لا تفارقها حتى تجد مكانها بين المقاعد المتاحة، يلوح بيده
للسائق كأنه يرسل وصية صامتة: ابنتي أمانة بين يديك، فحافظ على قرة عيني إلى أن
تعود سالمة غانمة. ثم يعود متثاقلا إلى بيته المدفون بين أحضان الغابة، وهو يعطر
لسانه بأذكار الصباح، لم يكن يدري القراءة و الكتابة، لكنه يتقن ضبط منبهه
على الساعة السابعة، مرتقبا عودة ابنته. موعد لطالما التزم به رغم المرض الذي يعشش
في عظامه ويأكله من الداخل.
تكرر المشهد
كل يوم في المكان نفسه، إلى أن حل الربيع، و ازدانت الأرض بأريج الزهور لتصبح كل
تفصيلة خفية ذات معنى استثنائي: بريق العينين، اليد التي لن تفلتها مهما كبرت، وإشارات أبلغ من ألف عبارة.
في ذلك
الصباح، لم تتأخر الحافلة عن موعدها، وكانت كل عناصر المكان تسابق الرياح لشيء
ما، لا يُرى، لكنها شعرت به في الداخل و هو يوخز قلبها من حين لآخر.
وصلت الحافلة على غير المعتاد، أرخى الأب يد
ابنته، و لوح لها بيده عاليا، طويلا، وبشكل ثابت. غير أن تلويحته ظلت معلقة في
السماء هذه المرة، ظلت معلقة... كتلك الابتسامة الصامتة الخفية، كتلك العيون التي
تحتضن من بعيد فلذة كبدها، كذاك الوشاح الأرجواني الذي علق في مدخل البيت، شاهدا
على كل تفاصيل الحياة الصغيرة، ولغات الحب العميقة، ليذكرها بأن الشتاء قد يتغير والساق قد تجهد، والملامح قد تشيخ، لكن دفء الوشاح لن يتغير ما دام في القلب نبض
ودم يسري.
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا