فَنُّ قَنْصِ اللَّحَظَاتِ | نصرالدين شردال

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد القصّة القصيرة

مجلة فن السرد
د. نصرالدين شردال: المغرب. 



 القصّةُ القصيرةُ هي فنُّ قنصِ اللّحظاتِ، اللّحظاتُ الّتي نحياهَا دونَ أنْ نُحسَّ بهَا، قنصُ الحدثِ الصّغيرِ في لحظةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ، ذلكَ الحدثُ الّذي يراهُ الكثيرُ من النّاسِ، ويمرونَ عليه في حياتهم مرورَ الكرامِ... لكنَّ القاصَ المبدعَ لهُ نظرةً خاصةً للحياةِ، يَرى إليهَا بمنظارهِ الخاصِ، منظارُ التّجربةِ المصهورةِ في اللّغةِ.

 لنتأمل لحظة: وصول امرأة قروية إلى محطّة المدينة صباحا وهي تحمل كيسا أو حقيبة. هذه لحظة عادية في حياة النّاس وحياة المدينة وآلاف المدن في العالم، لكن نظرة المبدع إليها تختلف عن نظرة كلّ النّاس، فالنّاس في انشغالاتهم قد لا يثيرونها اهتماما، أمّا المبدع، فقد نظر إليها نظرة واحدة، وأصبحت عنده مادة حية لإبداع جماليّ معين. 

 فالمخرج يرى فيها نموذجا كاملا لمشهدٍ سينمائيّ جاهز، ما عليه إلاّ أن يتتبعها بكاميراته ويوثق حركاتها...أمّا الرّوائيُّ فإنّه في حاجة إلى عشرات الصّفحات كي يقنعنا بما سيكتب عنها، والشّاعر يصعبُ عليه أن يكتب عنها قصيدة في حينها، فعليه أولا أن يتأمل اللّحظة، ثمّ يحتفظ بها في ذاكرته زمنا طويلا، لتختمر وتظهر في سطر أو جملة شعريّة في حياته الشّعريّة القادمة.، والفنان الفوتوغرافيّ أو الرّسام، سيجردها من الحركة والحياة، حين يعتقلها في لحظة جامدة، في حالة واحدة، بينما هي في حياتها، تحركت وقضت حاجات وحاجات، وربما قضت نحبها أو تنتظر، بينما الصّورة/ اللّوحة ظلّت كوثيقة أو ذكرى. 

 أمّا القاص، فبمجرد النّظرة الأولى، تنضج الفكرة، وبصفحة واحدة أو اثنتين، يجعلنا نقبض على اللّحظة الإنسانيّة ونحسُّ بها، ونتعاطف معها.. يبلورها اللّحظة سرديا، لأنّه يتميز بتلك القدرة الهائلة على اختزال حياة كاملة في مقطوعة سرديّة متكاملة، وتلك هي ميزة المبدع الخلاّق. 

القصّة القصيرة، هي الزّهرة البريّة الّتي نبتت في غفلتنا جنب باب المنزل، دون أن نلقي لها بالا، وصارت في أيام معدودة أجمل من كلّ الزّهور والورود الّتي ربيناها، وحين ذبلت حزنا لفقدانها دون أن ينفعنا الحزن. 

 القصّة القصيرة، هي السّمكة الصّغيرة الحيّة، وقد أصبحت في مخالب النّسر، مُنتفضة، جميلة وطيّعة، ومدهشة وزلقة، وقد كانت قبل لحظات تحت الماء، تحسُّ بنا، وترانا، ونحن جلوسٌ على الضّفة، لمْ نلقِ لها بالا حتّى خطفها النّسر. 

القصّة القصيرة، هي القطّة الصّغيرة في بيت الجدّة، كانت آمنة مستأمنة، حتّى وضعنا أيادينا على فروها النّاعم الجميل، لكنّها خدشتنا بألم خفيف، دون عدائية، ودون قصدٍ، وقد تبقى الخدوش زمنا طويلا. 

القصّة القصيرة، هي لحظة؛ تلك اللّحظة الّتي دخل فيها القنّاص إلى الغابة، وعوض أن يطلق نار بندقيته على سرب الحجل، أخرج الكاميرا، وأخذ له صورة فوتوغرافيّة نابضة بالحياة.

ـ "لماذا فعل ذلك؟". 

ـ "لأنّه قرأ في طفولته قصّة قصيرة تجسد الفن والجمال والسّلام، وتدعو إلى الحياة في صفحةٍ واحدةٍ".

القصّة القصيرة، هي تلك الشّابة الجميلة الّتي التقتكَ أمس في منعطفِ الشّارع، نظرتَ إليها، ونظرت إليك، ولفرط تعبك بالحياة، ونقصِ خبرتكَ بالفنّ، لم تع الرّسالةَ، وفاتتك الشّابةُ، ركبت في القطار، ولن تعود. كان عليك أن تستغلّ اللّحظة، فالقصّة القصيرة بنتُ الوقتِ، والنّظرة العاشقة. 


القصّة القصيرة، هي العصفورة الصّغيرة في قفصك الصّدريّ، فحرّرها تحرّرك، ربما تذهب إلى الغابات، وتعود إليك ـ في فرح ـ تتبعها أسراب العصافير والطّيور المغرّدة، ويتبعها الرّبيع والمواسم الجميلة. 

القصّة القصيرة، هي فنّ قطف الوردة من الحديقة العمومية، دون أن تجرح تعب البستانيّ، ودون أن يحسّ النّاس والعشاق بنقص وردة من شجيرة الورد الجميلة، لكن لا تذهب بها إلى سجن، أو تضعها في إناء أو على قبر، بل قدّمها لحبيبتك هدية في لحظة فرح. 

القصّة القصيرة، هي فن قنص اللّحظة المناسبة، لحظة لقاء الحبيبة الأولى، ولن تنجح فيها دائما، قد تكون أنت القنّاص، لكنّ "الهوى غلاّب"، قد يجعلك أنت الضّحية، من خلال النّظرة الأولى، تقع في حبائلها وحبّها إلى الأبد، تسكنكَ اللّحظة، وتعجبكَ الأيام واللّيالي، هكذا تبني معها مستقبلاً، وتنجب معها قصصاً أخرى، وحيوات أخرى، هذه هي الحياة، هذه هي القصّة القصيرة.

مجلة فن السرد  | زوايا

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث