حملت ليلى حقيبتها، وأشارت إلى أول حافلة تمر بجوارها، وقفزت برشاقة قبل أن ينطلق قائدها كالصاروخ، مطيحًا بالركاب يمينًا ويسارًا، ومتأرجحًا بالعربة بعنف مع كل منعطف يقابله في الطريق.
تماسكت، وعدّلت من وضع طاقيتها البيضاء ذات الجوانب المصفرّة، وحبات العرق تغرق وجهها وشعرها، وتنساب في خطوط متعرجة تحت قميصها الأزرق، مصطدمة بحزام الحقيبة التي تحملها على ظهرها، وكأنها تحمل هموم تتجاوز ملامحها البريئة.
ارتكزت بظهرها إلى أحد المقاعد، وخلعت الحقيبة، ثم أخرجت منها كيسين صغيرين؛ أحدهما به "إبر خياطة"، والآخر "ماكينة حلاقة" برتقالية اللون.
وقفت لحظة تتفحص الوجوه، وجدت الركاب كلًّا منهم هائمًا في عالمه الخاص؛ هذا يدفن رأسه في شاشة هاتفه، وتلك تقرأ أوراقًا بين يديها، وأخرى تطعم طفلها قطع بسكويت، وكهل يستند إلى عصاه وهو يغمض عينيه، وآخر ينخرط في حديث مرتفع مع من بجانبه، وآخر يتشاجر في الهاتف... وقفت لحظة ولسان حالها يقول:
- ماذا أفعل؟
- كيف يفعلونها؟
- كيف يقفون بثبات، وبصوت واضح جهوري يعلنون عن بضاعتهم؟
من أين لهم بهذه الجرأة؟!
انتشلها من شرودها أحد الركاب وهو يقول:
– بكم ماكينة الحلاقة؟
تشجعت وقالت:
– بخمسين جنيهًا؟
قال الرجل بدهشة:
– بخمسين جنيه؟!
قالت:
– نعم... هل تريد؟
قال:
– لا، إنها تُباع بثمن أرخص من هذا.
قالت بتردد:
– لا... إنها بخمسين جنيهًا.
قال:
– حسنًا.
تلفّتت حولها، فوجدت الركاب ما زالوا كما هم، فقالت بصوت غير متناسق النبرات، مبحوح:
– حد عايز إبر خياطة؟ مكن حلاقة؟ مشط للشعر؟ بَنَس؟ أقلام جاف؟ كروت للبطاقة؟
حد عايز حاجة من اللي معايا في الشنطة؟
معايا حاجات كتير أوي، حد عايز منها حاجة؟!
قال الرجل الذي سألها عن ماكينة الحلاقة:
– تعالي...
فرحت كثيرًا...
أعطاها عشرين جنيهًا.
قالت بدهشة:
– ماذا تريد بها؟
قال بابتسامة:
– لا شيء...
قالت:
– لكن لا بد أن تأخذ بها شيئًا.
قال بابتسامة:
– إنها هدية مني لكِ.
شعرت بالخجل... نادت تلك التي تطعم طفلها قائلة:
– ابنتي، تعالي هنا.
ركضت إليها وهي تمد يدها بأمشاط وبَنَس للشعر...
قالت السيدة:
– لا أريد شيئًا.
وناولتها بضع جنيهات.
وفعل مثلَهما بعض الركاب...
وضعت البضاعة في حقيبتها، ونظرت للنقود بدهشة، وهي تحدث نفسها:
- هل أدركوا أنها المرة الأولى لي؟
- هل بدا عليّ الخجل والتردد؟
- هل رأوا في وجهي حاجتي لتوفير مبلغ محدد لأدفعه إيجارًا للغرفة التي تأويني أنا وأمي؟
هل يعلمون أن أمي تطلّقت، وهربت من البيت لأنها لم تستطع العيش وسط تحكمات أسرتها التي فرضت عليها الزواج قسرًا، وتريد الآن أن تزوجها لكهل قعيد؟
زفرت بضيق وكلمات والدتها تتردد داخلها: لابد أن نوفر مبلغ الإيجار قبل أن يأتي الميعاد المحدد...!
ارتعشت يدها وهي تتخيل أن أول الشهر قد حل وهم لم يتمكنوا من توفير المبلغ المطلوب..
قالت بصوت مرتعش مخنوق: حد عايز حاجة من الشنطة قبل ما انزل؟!
لم يرد عليها أحد عدلت من وضع الطاقية وهي تجاهد في إخفاء ملامحها المرتبكة الغاضبة وغرقت في الشرود ولسان حالها يقول:
لماذا يخلق الله أناسًا أقدارهم تساندهم، وآخرين لا؟
هل كُتب عليّ أن أكون ممن يعاندهم القدر؟، هل سأتمكن من مساعدة أمي في توفير الإيجار؟
قالت للسائق:
– على جنب يا أسطى.
ونزلت في المحطة، والعرق يبلل وجهها، تاركًا المزيد من البقع والعلامات الواضحة فوق ملابسها...!!
هبطت وهي تعدّل من وضع حقيبتها على ظهرها، وتنظر للسماء بصمت، وداخلها تساؤلات لا حصر لها...
تاهت أسئلتها في الزحام، في وجوه المارّة التي تهرول دون اكتراث لأي شيء أو لأي أحد...
داخلها صوت يقول:
لا بد أن أتدرّب على النداء بالبضائع...
- هل أراقب الباعة في الأسواق، أم أراقبهم في المواصلات؟
لا بد أن أتخلص من عبء هذه السلع...
لا أريد أن أعود بحقيبتي المنتفخة إلى البيت، فتُصاب أمي بخيبة أمل...ساعدني يا إلهي... لأبيع كل هذه الأشياء. لأجرّب حظي في عربات المترو...وليكن في عربة السيدات...
سارت بخطى متثاقلة، عابرةً الطريق، متجهةً إلى محطة المترو، وقفت أمامها، فرأت الزحام...
شرَدت لحظة، متخيلةً أن كل شخص قد اشترى شيئًا مما تبيع، وتسللت ابتسامة إلى وجهها... ابتسمت، ومضت نحو الزحام... نحو قدرها الجديد.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا