بين أضواء الخشبة وصمت الجمهور، يولد المسرح كل مرة كعالم صغير مكتفٍ بنفسه، يحمل في طياته أحلام البشر وآلامهم، آمالهم وأسئلتهم الكبرى عن الوجود. هو المكان الذي يلتقي فيه الواقع بالخيال، والحكاية بالحقيقة، حيث تتجلى الإنسانية في أبسط تفاصيلها وأعمقها.
ولادة الخشبة الأولى:
منذ أن عرف الإنسان النار وعرف الحكاية، كان المسرح وليد تلك اللحظة البدائية التي التفّ فيها البشر حول لهب يرقص في قلب الليل. كان الليل كثيفًا، والنجوم متربصة بالصمت، والنار تصفق بلهيبها كما لو كانت تعزف لحنًا قديمًا. هناك، وسط الدائرة، وقف راوٍ يحمل صوته وقلبه فقط، ينسج من أنفاسه حكايات عن آلهة خفية، ومخلوقات أسطورية، وحروب لم يشهدها أحد إلا في الخيال.
لم يكن في الأمر ديكور أو أزياء براقة، لم تكن هناك موسيقى مصطنعة أو أضواء ملونة، بل كانت السماء سقفًا مهيبًا، والأرض خشبة خام، والوجوه المندهشة هي الجمهور. كان المسرح في بداياته صلة الوصل بين الإنسان وما لا يراه، بينه وبين الأسطورة التي تفسر له المطر والبرق والموت والحب.
ومع مرور القرون، تطورت هذه الطقوس، وتحولت من مجرد تجمع قبلي إلى مشهد فني، ومن حكايات على ضوء النار إلى عروض منظمة تحمل نصوصًا وحبكات وشخصيات، كما في اليونان القديمة، حيث صارت المدرجات الحجرية معابد للفن، وصارت الخشبة كائنًا حيًا له قلب ينبض مع كل تصفيق.
المسرح.. مرآة الإنسان:
المسرح ليس مجرد حكاية تُروى على عجل، بل هو مرآة تصقلها أرواح الممثلين لتنعكس فيها أعماق النفس البشرية بكل ما تحمله من نقاء وتشوه، من حب وكراهية، من ضعف وقوة. كل شخصية تصعد الخشبة تحمل ظلًا من أحدنا، وكسورًا من جراحنا القديمة.
هناك، تحت الضوء، يسقط القناع الذي نرتديه في حياتنا اليومية، ويتعرّى الإنسان من أقنعة المجاملة والخوف، ليقف في مواجهة ذاته.
الممثل لا يؤدي دورًا فحسب، بل يستحضر آلامنا المدفونة وأفراحنا التي نخشى البوح بها. والجمهور، مهما حاول الإنكار، يجد نفسه في تلك الوجوه والنظرات والصرخات. المسرح بهذا المعنى هو ساحة مكاشفة، حيث تتقاطع الحقيقة مع الخيال، ويذوب الحد الفاصل بين الممثل والمتفرج، حتى يصبح كل واحد منا جزءًا من النص.
أسرار الحياة على الخشبة:
الخشبة ليست مجرد مساحة من الخشب، إنها مسرحٌ للأسرار التي لا تجرؤ الحياة اليومية على كشفها. هناك تتحول الحركات الصغيرة إلى اعترافات كبرى، وتصبح لحظات الصمت أكثر صخبًا من الكلمات.
نظرة خاطفة قد تكشف خيانة، أو تحيي حبًا منسيًا، أو تعري خوفًا دفينًا. قد تكون الضحكة صرخة مكتومة، والدمعة انتصارًا خفيًا، والإنحناءة الأخيرة وداعًا صامتًا لدور عاشه الممثل حتى الأعماق. هنا تتجلى قدرة المسرح على تكثيف آلاف الكلمات في حركة واحدة، وعلى تحويل الصمت إلى لغة، والظل إلى شهادة.
المسرح بين الخلود والزوال:
المسرح فن يولد من رحم اللحظة، ويعيش فيها ثم يمضي كما جاء، تاركًا خلفه صدى لا يُمحى. كل عرض هو كائن حي له روح خاصة، لا يمكن استنساخها مهما تشابهت الكلمات والحركات.
تلك الدقيقة التي تُعرض فيها القصة أمام الجمهور هي حياة كاملة، مكتملة الملامح لكنها قصيرة العمر. وربما لهذا يترك المسرح أثرًا أعمق من أي فن آخر، لأنه يجبرك على أن تعيشه بكل حواسك حتى آخر نفس. إنه تذكير بأننا، مثل الممثلين، نؤدي أدوارًا فريدة في مشاهد حياتنا، ونرحل تاركين أثرًا في ذاكرة من شهدونا.
المسرح العربي.. التحدي والهوية:
في العالم العربي، ظل المسرح ساحة نضال تُمارَس فوقها المقاومة الثقافية والفكرية. منذ بداياته الحديثة مع مارون النقاش وأبو خليل القباني، وحتى تجارب اليوم، يحاول المسرح العربي أن يجد صوته وسط رياح العولمة وشاشات البث السريع.
واجه المسرح العربي تحديات قاسية؛ من قلة الدعم، إلى الرقابة، إلى ضعف البنية التحتية. ومع ذلك، ظل المبدعون يقاتلون على الخشبة بإيمان أن المسرح مساحة للحرية ومنبر للحقيقة. ومن يوسف إدريس إلى سعد الله ونوس، ومن مسرح الحكواتي في بيروت إلى مهرجانات قرطاج، كان السعي دائمًا لتحقيق توازن بين الأصالة والتجديد.
الخشبة التي تحيا فينا:
حين نغادر القاعة ويُسدل الستار، تبقى بداخلنا قطعة من ضوء الخشبة وصدًى من أصواتها. قد تكون جملة هزّت أعماقنا أو مشهدًا أعاد إلينا ذكرى منسية. المسرح ليس مكانًا نزوره، بل تجربة تتسلل إلى أرواحنا، تذكرنا بأننا جميعًا ممثلون على خشبة كبرى اسمها الحياة.
في تلك الخشبة، لا يوجد نص مكتوب سلفًا، نحن من نصوغ الحوارات ونختار المواقف. وهكذا يظل المسرح أقرب الفنون إلى الحياة، لأنه يعكسها ويشبهها في آن واحد، ولأنه يعلّمنا أن النهاية ليست في إطفاء الأضواء، بل في الأثر الذي يتركه العرض فينا، عرض لا ينتهي إلا بانتهاء الحكاية.
في النهاية، يظل المسرح أكثر من مجرد خشبة ووجوه مضاءة، إنه تجربة حية تنسج فينا وعينا بذواتنا وبالحياة. يتركنا نغادر القاعة محملين بصدى المشاهد التي عشناها، محفورًا في ذاكرتنا كما تُحفر النجوم في السماء. المسرح يعلّمنا أن كل لحظة، كل كلمة، وكل صمت في حياتنا، هو جزء من عرض أكبر لا ينتهي، وأننا جميعًا ممثلون على خشبة الزمن، نكتب قصتنا بأنفسنا، حتى يأتي دورنا في الاختفاء عن الأنظار، تاركين أثرنا في قلوب من شهدونا.
مجلة فن السرد | زوايا
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا