جلست عند مكتبي الخشبي القديم، كما أفعل كل مساء، أرتب الأوراق والكتب المكدسة منذ أشهر. الضوء الخافت للمصباح يلقي بظلال طويلة على الجدران، والهدوء يكتنف الغرفة كما لو كان يحرس أسراري. كل شيء طبيعي، مألوف، وروتين لا يشبه أي مفاجأة. حتى الساعة المعلقة على الجدار، كانت تدق كما كانت دائمًا، بلا أي اختلاف، وكأنها تشهد على الحياة دون أن تتدخل فيها.
كنت أضع في اعتقادي أن حياتي مستقرة، أن الماضي مرّ، وأن كل الأشياء التي اعتقدت أنها مؤلمة، قد تحولت إلى مجرد ذكرى.
لكن، فجأة، وقع شيء لم أستطع توقعه. كنت أبحث بين الأوراق عن رسالة قديمة نسيتها، عندما وقعت عيناي على ظرف متهرئ، مختبئ خلف دفتر قديم. لم يكن شكله يشي بما فيه، لكن شيئًا داخلي تحرك فجأة، كما لو أن الزمن نفسه صرخ لي: "افتحه".
فتحت الرسالة ببطء، كأن يدي تخشى ما ستجده. الحروف المكتوبة كانت صامتة، لكنها حملت كل شيء: الحقيقة التي كنت أتجنب مواجهتها، سرًّا عن أحد أحببته، عن نفسي، عن العالم الذي ظننته ثابتًا. شعرت بانكسار داخلي، أول وهلة لم أستطع إدراكه. كان الانكسار مثل شرخ صغير في الجدار، بدأ يترسخ، ثم يتسع شيئًا فشيئًا، حتى شعرت بأن كل كياني يهتز مع كل كلمة.
لم تكن الكلمات وحدها هي ما هزّني، بل الفراغ الذي تركته، الصمت بين السطور، الإيحاء بما لم يُذكر صراحة. فجأة، كل الذكريات الماضية التي اعتقدت أنها آمنة، صارت مشوشة، مشكوك فيها، كأنني كنت أعيش في وهم طويل. كل الأشياء التي ظننتها مستقرة، كل علاقاتي، كل أحلامي الصغيرة، أصبحت في ضوء هذه الرسالة قابلة للتحطم، هشّة، سهلة الانكسار.
جلست مستسلمًا أمام الظرف، أراقب نفسي كما يراقب الغريب الغريب. داخلي صار ساحةَ صراع: هل ألوم من كتب الرسالة؟ أم ألوم نفسي على غفلتي؟ كل سؤال يولد آخر، وكل جواب محتمل يزيد الانكسار. شعرت بالغربة عن نفسي، وكأن جزءًا مني قد انتزع دون إذن، وكأنني أصبحت مراقبًا لحياتي من بعيد، بلا قدرة على العودة.
كنت أرى العالم من حولي كما لو أنه انزاح قليلاً عن مكانه، الأشياء العادية لم تعد كما كانت. الصوت، الضوء، حتى الرائحة، كل شيء بدا مشحونًا بالمعنى الجديد الذي حملته الرسالة. كل لحظة بعد هذه اللحظة المفصلية، ستُقاس بوزنها، ولن أستطيع تجاهل تأثيرها.
بدأت أفكر في كل ما اعتقدته يقينًا: حياتي، أمنيتي في الاستقرار، سلامي الداخلي، وحتى صورة نفسي التي حاولت الحفاظ عليها. كل شيء صار موضع سؤال. شعرت بأن اللحظة المفصلية ليست مجرد حدث عابر، بل فصل جديد في كتاب وجودي، فصل يبدأ بالانكسار، ويستمر بالوعي، ويتركني وحيدًا مع إدراكي بأن كل ما بعد ذلك لن يكون كما كان.
الماضي أصبح مختلفًا. كل ضحكة، كل لقاء، كل كلمة قيلت لي أو قلتها، صارت تحمل معنى آخر، مختلفًا، لم أره من قبل. الصمت أصبح ثقيلًا، كل لحظة تنتظر تفسيرًا، كل نفس يحمل الصدى المخيف للحقيقة التي اكتشفتها.
في داخلي، بدأ سؤال بلا نهاية يتكرر: لماذا لم أرَ العلامات؟ وهل كان يمكن أن أتجنب هذه اللحظة؟ لكن الإجابات لم تأتِ. كل ما تبقى هو إدراك أن اللحظة حدثت، وأنها ستظل تتسلل إلى كل ثانية بعد ذلك، مثل ظل طويل لا ينكسر.
وعندما أغلقت الرسالة، شعرت بأنني لم أعد كما كنت. كل شيء بداخلي تغير، وكل شيء حولي بدا مختلفًا، حتى لو حاولت تجاهله. لم تعد العودة ممكنة، لم يعد الماضي كما عرفته، ولم يعد العالم كما اعتدت أن أراه.
وهكذا، ببساطة، في ظرف قديم ووحيد، انقلب كل شيء: نفسي، ذكرياتي، شعوري بالأمان، علاقتي بالآخرين. كل شيء أصبح مختلفًا، وكل خطوة بعد تلك اللحظة ستظل متأثرة بها، مهما حاولت تجاهلها أو نسيانها. كل شيء بداخلي صار صامتًا، لكنه يصرخ: لم تعد كما كنت، ولن تعود أبدًا.
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا