قصة قصيرة | محمد حسين آركيدي
(1) نزلتُ إلى البئر… ثلاثون مترًا. ربما أربعون.
أمسك الحبل حينًا، وأضع يدي على الجدار أحيانًا، وأتلمّس سُلَّمًا صدئًا تتخلّله الفُرَج، كأنّه لا يثق بي.
الرمل فوقي صامت، لكنه ثقيل،كأنّ كل حبة فيه تراقبني، تتربّص بي، تنتظر سقوطي.
العرق يتقطّر من ظهري، يمتزج بالغبار، يصير طينًا بين أصابعي، وشهادة ميلاد جديدة لهذا الجسد المنسي.
أحفُر في قلب الحجر،كل ضربة مطرقة تفتح احتمالًا:
إما وميض ذهبٍ خافت، أو فتحةُ قبرٍ، أو فراغٌ يردّد صوتي.
أملأ "الشوالات" بحجر الجير، عرق الذهب المكابر، ثم تُدفع صعودًا عبر ما نسميه "القطر":
سلسلةُ رجالٍ، مرصوصون كفقرٍ قديم، كلٌّ يرفع "الشوال" إلى من فوقه، حملٌ يتناوب، يتصاعد، حتى يصل إلى فم البئر… ثم يُنسى.
الهواء شحيح.
يأتينا من خرطومٍ رفيعٍ مربوط بمروحة عرجاء على فوهة البئر. رائحته خليطٌ من صدأ، وزيت محترق، وخوف مؤجَّل.
كلّ خروج من هذا البئر عمرٌ جديد.
قبل أن أخرج، رأيت جدارًا في عمق الحفرة محفورًا منذ زمن بعيد. شعرت أن هذه البئر لم تُولد معنا، بل مع أول فأس استعماري جاء يبحث عن الذهب والرجال، حين دخل الأتراك هذا المكان، لا ليعمروا… بل ليحفروا.
حين أخرج من جوف الصخر،
أزحف داخل مشمّع مشدود فوق شوالاتٍ منتصبة، لا يتعدّى علوّها نصف متر.
هكذا نصنع الظلّ، أو نتوهّم أننا نملكه.
أعلى البئر… لا ظلّ.
لا شجرة.
لا سحابة.
فقط كثبان وحجارة سوداء تلمع تحت شمسٍ تشبه المحاكمات.
هذا هو "الخنّاق"، على تخوم دلقو.
الصحراء هنا لا تعترف بالقانون، بل بالعرق، وبالرجال المجهدين الذين يصمتون طويلاً.
(2)
لم أولد هنا. ولم يكن أبي من "دلقو المحس". أنا من "شكشكو"، قرية من ترابٍ ودخن، وبطيخٍ وتمباك.
قريتي … بيوتُها قبابٌ من سيقانِ الدخن. سيقانٌ مربوطةٌ كأضلاعِ امرأةٍ حاملٍ…تَحتَضنُ البردَ في جوفها. والمطرُ يزحفُ على الجدرانِ المائلة، ينزلقُ غاضبًا إلى الأرض. وأعمدةُ السدرِ تحملُ السقفَ كأكتافٍ عاريةٍ.
أمي تهمسُ:
"القصبُ أذكى من الإسمنت… يَعرفُ أنَّ الحرَّ يَهربُ من المُستدير."
هناك في حافة الصحراء التي تزحف إلى "دارفور"، عشنا من الأرض والأرض... ثم التهمتنا.
ذاتَ فجرٍ، جاء الدخانُ قبلَ الشمس فاحترقت القبابُ…صارت رمادًا في كفِّ الريح.
في ضحوة واحدة مُسحت القرية من الخارطة.
وهل كانت في الخارطة أصلًا؟
ولم تكن نيران السماء، بل قرار مكتوب في الخرطوم، وموقَّع بدمٍ لا يُرى.
من نفّذ الحريق؟
كانوا يأتون على خيولٍ بلا سروج، يحملون البنادق كأنها مفاتيح الجنة.
وجوه تعرفنا، لكنها تنظر إلينا كغرباء.
قالوا: "أنتم الحاضنة"،
فأحرقوا البيت بما فيه من ذاكرة.
أمي ماتت هناك.
لم أجد جثتها.
لكنّي ما زلت أشمّ رائحتها كلّما اشتدّ الحر.
كان وجهها مليئًا بالخطوط، لكنها كانت تعرف كيف تزرع ظلًّا حتى في ساعة القيظ.
أما الذين قرروا، جلسوا في العاصمة "الخرطوم"، يتحدثون عن الأمن، عن التمرد، عن الشمال (الغرب) الكافر، ثم يعودون ليتلقوا مباركة الجوار… والجوار وكلاء الشمال (الغرب).
أما الذين رفعوا السلاح باسمنا، فما عرفونا. تكلموا عنّا بلغة لا نفهمها: تقاسم السلطة والثروة، والحكم الذاتي، واللامركزية. وحين سُئلوا:
من أين جاءت البنادق؟
قالوا: "من خلف البحر… من أصدقاء قضيتنا."
وهكذا…
هربنا.
وصلنا إلى "أبوشوك"، مدينة من مشمّعات، كأنها تنتظر العاصفة منذ قرن. فالريح هناك لا تهمس، بل تصفع.
والحرّ ليس طقسًا، بل ذلّ.
في الطوابير، نحمل الجِرار الفارغة، وفي العيون، نحمل كل شيء آخر.
ونطبخ على رماد الأشجار التي أكلها عمران الفاشر.
في "أبوشوك":
طال الانتظار المذل… شرع المخيمُ يستبدل المشمعات بمكعبات طينية.. أسموها بيوتا…. جدرانُ الإغاثةِ تَصرخُ زوايا حادةً.
المطرُ يثقبُ المشمعاتِ والسقوفات كرصاصٍ.
أتذكرُ سُقفَ شكشكو الهرمية…كيدٍ خفيةٍ تَمسحُ الغيومَ عنه.
هنا… الماءُ يَجمعُ أطفالَنا في جَرَّةٍ. والمنظماتُ البيضاءُ توزعُ الأرقامَ على القبور.
أقولُ: "أعطونا بذورًا… نَزرعُ ظلًّا".
يَضحكون… كأنَّ الظلَّ في كتالوجاتِهم ورقي.
وفي السماء... كانت هناك طائرات بيضاء، تحمل شعار السلام. لكنها كانت توثّق فقط، وتكتب تقارير، وتبتسم للمأساة عن بعد.
(3)
في أبوشوك، عرفت أن الجسد لا يتكوّن فقط من لحم وعظم، بل من أسئلة لا تجرؤ على الجواب.
لماذا احترقت قريتي؟
لماذا يقف الرجل الأزرق في الحاجز، ولا يوقف الرصاصة في صدر الطفل؟
ولماذا يبدو الحرّ في هذا المخيم...
أقسى من جهنم؟
(4)
حين ضاقت الدنيا، ركبت شاحنة عبرت صحاري كردفان، بعد ثلاثة أيام بلياليها في القيظ والرمال الموحلة وصلت إلى "دلقو المحس". قالوا لي:
الذهب هناك… وربما ظلّ للكرامة.
في دلقو، حيث التنقيب الصامت له طنين، والشمس لا تشرق، بل تُسلّط ، والأمل كومة تراب… تحتاج حفرةً عميقة كي تلمع.
ولكن في القرية : غرفُ الجالوصِ تتنفَّسُ، والطينُ يَلعقُ حرارةَ النهارِ بلسانٍ باردٍ. سقفُ الجريدِ يئنّ:
"أنا عظامُ النخيلِ التي سُرقتْ".
أضمُّ الجدارَ إلى صدري…أسمعُ دقّاتٍ. قلبُ الأرضِ يذبحُ الشمسَ.
(5)
في عزّ الهجير، تغيب الطيور، وتختفي الجرذان. لكنّا نحن، نبقى…. لا لشيء، إلا لأن أجسادنا لم تتعلم الهرب.
حين أرفع وجهي نحو الشمس لا ألعنها، بل أتحسس جلدي لأتأكد أنني ما زلت من هنا.
أنني لم أتحوّل بعدُ إلى ظلّ.
(6)
كسرنا الحجارة.
نخزن الذهب في عروقنا قبل أن نبيعه. ولكنّ أغلبه لا يبقى. ينزلق في قنوات خفية، تحت حماية نياشين وبدل لامعة يتوارى في شحنات رسمية، يُغلف في صناديق وطنية، ليهبطَ في موانئ الخليج ، ثم يركب الجوّ شمالًا، حيث يُوزن بالأوقية ويُباع بلغة لا نفهمها.
وراءنا، يزحف الخطر. فالتعدين العشوائي يفجّر باطن الأرض، ويدفن آثارنا، ويخلخل بيئتنا. والزئبق والسيانيد يمتصان الصحة من أبداننا بشراهة مثيرة! يشربان أعمارنا ببطء مميت، يحوّلان أجسادنا إلى مناجم مستنزفة.
حين نصرخ، لا يسمعنا أحد؛ فالاحتجاجات الشعبية تُقمع حينا… وقد يمضغها التجاهل عندما تصرخ المنظمات الحقوقية، والشركات الأجنبية تتخفّى في جلابيب وطنية، والسماسرة الرسميون يبتلعون المايك، يبتسمون للكاميرات.
قال لي رجلٌ في السوق:
– "نشتري منك بالغرام، ويبيعوه بالتراب."
سألته: "أي تراب؟"
قال: "تراب الخليج."
ثم ضحك... كأنّه يبكي.
(7)
قررتُ أن أهاجر. لا من البئر، بل من جسدي. أن أخرج من جلد عرف الرمل والعرق والخوف. أن أُعيد تشكيل حواسي بلغةٍ أخرى.
عبرت من "الخناق" إلى "المثلث"، ثم إلى "كُفرة" بشاحنة تحمل أرواحًا مشروخة، تمضي فوق الصحراء كأنها تشقّ جلد الأرض. واحدٌ مات بيننا. قال السائق:
– "ارموا الجثة، الليلة طويلة."
لم أنظر.
لكنني شعرت أنها تشبهني أكثر منّي.
(8)
وصلت إلى أوروبا. بلاد البرد، والحليب، والإعلانات التي تهمس بدل أن تصرخ. سكنت في شقة بيضاء ، كل شيء فيها بارد:
الجدران، الأرائك، حتى الماء.
ذا يوم، أعلنت النشرة:
"موجة حر قاتلة. ٤٠ درجة. الموتى بالمئات."
ابتسمت.
أربعون؟
نحن في "أبوشوك" نسميها "بداية الصيف".
في "دلقو المحس"، لا تبدأ الحياة قبل الأربعين.
(9)
لكنني لم أضحك طويلًا. فجأة شعرت أن جسدي تغيّر. وأنني لم أعد أملك حقّ العرق. وأنّ الجلد لا يتذكّر، والقلب يخاف من بذل أي جهدٍ .كأنني فقدت شيئًا أعمق من التكيّف… فقدت الذاكرة المناخية.
(10)
في أحد الأيام، دخلت المستشفى بعد إغماءة خفيفة بسبب الحرارة. جاء الممرّض الأبيض، لفّ عليّ شرشفًا باردًا، ثم سألني إن كنت أحتاج ترجمة.
قلت له: "أنا فقط بحاجة إلى أن أفتّح الشباك."
قال: "ممنوع... الجو قاتل."
قلت في نفسي: قاتل؟ دا زي النسيم عندنا.
(11)
الناس هنا لا يتعرّقون. فالهواء رطب، والعرق لا يتبخّر، بل يبقى، يحاصر الجسد من الخارج، يخنقه.
في السودان، العرق يتبخّر بسرعة، يأخذ معه القليل من السخونة، يترك على الجلد شعورًا بالتواطؤ مع الشمس.
(12)
أجسادنا هناك تعلّمت أن تعيش.
نبدأ التعرّق باكرًا، نحفظ الأملاح، نرتاح وقت القيلولة، نشرب الماء دون أن نحتاج إلى من يذكّرنا.
حتى جيناتنا تشهد.
قالت دراسةٌ ما، إن الأوروبيين تطوّروا لتحمّل البرد؛ لكن ذلك جعلهم يحفظون الحرارة… لا يطردونها.
فكيف لا تموت أجسادهم حين تهبّ موجة الشمس؟
(13)
جلستُ مرةً في قطار.
رجل بجانبي، أسود البشرة، وجهه يشبهني كأننا من نفس السلالة.
قال:
– "أنا من نيالا. لمن أختنق هنا، بتخيل نفسي في زريبة الضأن، ورائحة الروث الحار… تطمّن قلبي."
ضحكت.
ثم بكيت.
(14)
الحر لا يقتل.
العزلة تقتل.
أن تنفصل عن جلدك، أن تعيش في بيتٍ لا تسمع فيه صوت الحطب، ولا شمّت فيه رائحة الغبار المبلول.
هذه هي النهاية.
(15)
عدت إلى السودان. لا لشيء، فقط لأن قلبي بدأ ينسى. وقفت في "دلقو"...الريح الساخنة تمشط جلدي.
ضحكت.
ثم بكيت.
رأيت طفلاً يحمل ماءً في جردل صدئ، قلت له:
– "ساخن؟"
قال:
– "لا... دا عادي."
ثم مضى.
وفي السوق، سألني شيخ نحيف يرتدي عمامة قديمة:
– "إنت من وين؟ شكلك زول من دارفور."
قلت: "من شكشكو."
قال وهو يحدّق في وجهي: "أظنك ود عم صابر... كان عندو خال اسمو موسى قتلوه أيام حريق القرية."
أردت أن أقول نعم... لكن الدمع سبقني.
أعجِنُ ترابَ دلقو… أصوغُ امرأةً تحملُ جرةً بدلَ القلبِ.الشمسُ تشربُ ماءَها… تصيرُ فخارًا. أدفنُها تحتَ سمرةٍ وحيدةٍ. الطينُ يلدُ أمهاتٍ…والأرضُ تستعيدُ أنفاسَها.
(16)
العجيب ليس أننا نحتمل الحر، بل أننا لا نحتاج إلى تفسيره. حين يتصبّب جسدنا عرقًا، نرى في ذلك علامة حياة… لا إنذار خطر.
لكن أوروبا، تحتاج أن تشرح كل شيء:
كيف ولماذا ومن المسؤول؟
(17)
الجسد لا يُهاجر. ما يهاجر هو الإحساس ، هو ذاكرة الجسد، هو العلاقة بين الجلد والمكان. كل ما خسرته في أوروبا… هو هذا:
"نسي جلدي الحرّ"
(18)
في أوروبا، حين فتحتُ النافذة في شتاء خامل، هبت نسمةٌ غريبة، تحمل شيئًا من رائحة "التمباك"، كأنّ أحدهم كان يضع "سفّة" تحت نافذتي.
رائحةٌ لا تأتي من التبغ، بل من الذاكرة.
رائحة الأيدي الخشنة، والمجالس المتربة، والنقاشات التي تبدأ في السياسة وتنتهي في قعر كوب شاي.
تسمرتُ… لم تكن باريس، كانت أبوشوك.
(19)
مررتُ مرةً بمحل مجوهرات فاخرة. خلف الزجاج، خاتمٌ ذهبي يتلألأ فوق قاعدة حريرية. أسفل منه سطر صغير:
"ذهب من تراب الخليج – نقاء لا مثيل له."
ضحكت.
عرفت التراب. أنا من رفعه من باطن البئر، أنا من دفنه تحت جلده. لكنهم… باعوه بشعار.
(20)
في ذكرى وحدتي، اشتريت خاتمًا صغيرًا، ذهبيًا، بسيطًا. أردت أن ألبسه في إصبعي، كأنّي أُثبت حقي في اللمعان. وفي يومٍ صيفيٍ رطب، ذابت الحواف. الذهب لم يحتمل العرق ؛ كأنّه عرف أنني لست من هنا.كأنّه يحنُّ إلى التراب.كأنَّه رفض الاغتراب.
(21)
أحيانًا، أطفئ المدفأة، وأفتح النوافذ، وأستلقي على الأرض، وأتخيل نفسي داخل بئر في "الخنَّاق"، الحرارة تنهشني، ولكنني أبتسم. في تلك اللحظة، أشعر أنني ما زلت أنا.
ما زلت أعرق كما ينبغي… وأفكّر كما يجب.
هل الجسد يهاجر؟
أم نحن من نودّع حواسّنا عند أول مطار؟
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا