ساد الظلام، لفح الهواء البارد وجهه حين خرج من الحانة، مرت في ذاكرته لحظة انكساره يوم أن زُفت حبيبته لغيره، ثم توالت محطات شقائه كشريط فيلم سريع، فشله في مواصلة الدراسة، مفارقته للأهل والأحباب، انغماسه في بحر حياة لا يعرف لها مغزًى ولا ينتحي بها مقصدًا منذ أن وطأت قدماه بلاد الغرب، حياة متشابهة متماثلة، لا فرق بين صباحها ومسائها، وأمسها وغدها، ذَهاب إلى الحانات، شراب، سكر، ثمالة، نوم.
وبينما هو كذلك؛ انتابه شعور غريب، طفق يركض وسط الشارع باحثًا عن سيارة مسرعة لتنهي حياته البائسة، أقبلت إليه سيارة صغيرة بيضاء، فتح ذارعيه ليتلقاها بالأحضان، توقف كل شيء، سقط على ظهره، توقفت السيارة، نزلت منها فتاة شرقية، هرعت به إلى المستشفى التي تعمل بها كطبيبة، استقرت حالته، لم تر له عائدًا؛ أدركت أنه وحيد، قامت على شأنه، تعافى، آب إلى رشده. علمت أن الحياة التي كان يحياها سلبته كل شيء، وقد بدا فقيرًا معدمًا لا يملك من متاع الدنيا شيئًا. أتت به والدها وما زالت تحدّثه عنه حتى رضي الأخير بأن يوظّفه في شركته، وزاد بأن خصّه بغرفة صغيرة في الطابق الأرضي من المنزل ليقيم فيها.
لم يقدّر يومًا من الأيام أن يصل أسباب حياته بأسباب حياتها؛ وأن والدها يسخو بمثلها على شاب بائس كان ضائعًا مشردًا، والآن مجرد عامل عنده، ولم يتسقّط منها ساعة من الساعات ما يطمع في مثله المحبون المتسقّطون...لقد أحبها وضن بها، ولم يفارقه طيفها ليل نهار، وهو الذي يحاول أن يستشف من وارء نظراتها خبيئة نفسها ليعلم إن كانت تبادله ذات الشعور.
مال ميزان النهار، انحدرت الشمس إلى مغربها، سكن كل صوت إلا صوت العصافير المزدحمة على أبواب أعشاشها، جلس في الحديقة يترقّب نزولها، وقد كتب لها كتابًا نطق فيه قلمه بما عجز عنه لسانه، رآها مقبلة نحوه، دنت منه، ابتسمت له وقالت له:
أتذكر مكان شجيرات الياسمين في هذه الحديقة؟!
اضطرب لسؤالها ثم قال:
نعم، إنها هناك في الجهة الجنوبية من الحديقة.
قالت له:
هيّا معي إلى هناك..
وبعد أن قطف لها الزهرات، مـدت يدها إليه مصافحة، فـلم يكن بين تلامس كفيهما وخفوق قلبيهـما إلا كما يـــكون بين تلامس أسلاك الكهرباء واشتعال مصابيحها. مضت ومضى بنظراته على آثارها حتى اختفت، فجمد في مكانه ساعة لا يتحرك ولا يلتفت، كأنما يتخيل أنها ما تزال جالسة بين يديه، فلما سمع صوتها أعلى المنزل، دار بعينيه حول نفسه يمنة ويسرة، فعلم أنه جالس وحده.
حزم أمره بعد تردد، تقدم لخطبتها من أبيها، بارك له الأخير ما أراد، خرج من عنده يعدو هائمًا وهو يشعر في نفسه أن السعادة التي نالها هي فوق ما يحتمل طوقه، فكان كلما مر بأحد من الناس حدثته نفسه أن يفضي إليه بقصته ليحمل عنه جزءًا من سعادته.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا