قصر الورق | باتريسيا هايسميث | ترجمة: رجاء عمّار

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
Patricia Highsmith مجلة فن السرد


قصر الورق | باتريسيا هايسميث | ترجمة: رجاء عمّار | تونس


انتفض "لوسيان مونتليك" عندما صادفه الإعلان، قرأه مرتين ببطء، حين تيقن أن بصره لم يخدعه، أعاد وضع الصحيفة، ونزع نظارته، واسترجع وجهُه تعبيره المرح المعهود الذي تشي به حركة رموشه، التي ترفرف على عينيه الزرقاوين الثاقبثين، وقال في نفسه: "أمر لا يصدق أن "غاستون بوتان" سمح بالتغرير به ووقع في الفخ!"، ضاعف هذا التفكير شعوره بالرضى، فقد سنحت له الفرصة سابقا ليثبت إمكانية خداعه، وهاهو يعرض  لوحة مقلدة للرسام "جيوتو"(*) للبيع مقتنعا أنها أصلية.

تأججت رغبة لوسيان للحصول عليها، لحسن الحظ اطلع على العرض في الوقت المناسب، إذ حدد موعد المزاد بعد منتصف نهار ذلك اليوم، هذه اللوحة المقلدة البديعة كادت تفلت منه مجددا وتضيع عليه فرصة حيازتها.
أعاد لوسيان ارتداء نظارته معدلا إياها جيدا أسفل جبهته البارزة بشكل لافت، نادى فرنسوا وأمره بإعداد حقيبة لقضاء الليلة في مدينة آي Aix في بروفونس، في الأثناء، فتح كتابه الخاص بإعادة إنتاج لوحات الرسام جيوتو، وانهمك في تفحص لوحة إعلان ميلاد المسيح للرعاة بتمعن.
 استغرب مرة أخرى أن هذا المسكين غاستون بوتان لم يرتب أنها مقلدة، هل هي الوجوه الصارمة جدا للرعاة الجاثين على ركبهم التي تنبئ أنها ليست من إنجاز جيوتو؟ 
إنها تفتقر على نحو ما القدرة على نقل شعور ديني حقيقي، كما أن اللون الوردي اللامع لثوب الملاك المبشر  مبالغ في بريقه.. إنها ليست لوحة أصلية للرسام، في المقابل، بالنسبة للوحة مقلدة، هي أثر فني بديع، لم يحتج لوسيان لمكبرة للتحقق من أنها ليست سوى نسخة، إذ يتمتع بجهاز حسي متطور يسمح له بشكل فوري تمييز غير الأصلي، وهذه الغريزة لم يسبق لها أن خانته.
استمر في الاستفهام مستنكرا عدم شك الانقليزي السير دونالد دينساني في أصالة هذه اللوحة عند بيع ممتلكات عائلة فريهلينجان، إضافة إلى الفرضية التي تؤكد أن الأصل أُتلف في منتصف القرن الثامن عشر.. على ما يبدو أن غاستون بوتان ليس على اطلاع  بمجريات الأمور.
ينحصر ولع لوسيان في جمع اللوحات المقلدة الأكثر كمالا، للرسامين الكبار فقط أما اللوحات الأصلية لا تثير اهتمامه،  متباهيا بهذا الميل معتدا بالنسخ من الأعمال الفنية التي تضمها مجموعته المتقنة إلى درجة قدرتها على خداع التجار وناقدي الفن الأشد حنكة وتمرسا.
 لطالما استمتع بهذه اللعبة خلال الخمسة عشر عاما التي أمضاها في جمع اللوحات المقلدة، على سبيل المثال، قد يخطر له عرض نسخة من بينها كإعارة لمالك الأثر، بعدها، حين يزور المعرض، يعرب علنا عن شكوكه حول أصالة اللوحة، وبطبيعة الحال ينتهي الأمر بالمصادقة على أنه محق، في مناسبتين، هزئ من غاستون بوتان التاجر ذائع الصيت بهذه الطريقة، وفي مناسبة أخرى دفع غاستون للشك في الأصل بتقديم نسخة مقلدة بشكل ناجح جدا إلى درجة احتاج فيها ستة مختصين ثلاثة أيام لمعرفة الفرق بينهما.
 وجد غاستون بوتان نفسه مدفوعا إلى التعليق بكلام لاذع على المجموعة الشهيرة الخاصة بلوسيان وعلى ذائقته المثيرة للريبة وولعه باللوحات المزيفة.
يتساءل لوسيان:" مثيرة للريبة بالنسبة لمن ولماذا؟"،
أفقدته هذه المقالب بعض الأصدقاء،  لكن عليه الاعتراف أنه قليل الانجذاب للصداقة تماما كلوحات ليوناردو ديفينشي وروني وللوحات الأصلية عموما، فهي طبيعية بشكل مبالغ فيه، متاحة.. باختصار مضجرة، ليس زاهدا في أن يكون محبوبا، لكن، إذا شكلت صداقة ما تهديدا، فإنه يخير الابتعاد.

تجري سيارته من نوع ديلاهاي التي اقتناها بستة ملايين من الفرنكات بسرعة مائة كيلومتر في الساعة، على طول طريق نابليون من باريتي إلى آي، حيث تبسط أشجار الدلب أوراقها، قشرة جذعها الملساء مرقطة ببقع قرمزية ووردية وبنية فاتحة، يمتد مشهد يتقاسمه البرتقالي الغامق والأخضر والأمغر ويتخلله بين الفينة والأخرى الأزرق لونا لعربة نقل يستقلها فلاح، مشهد مشكل بدقة شديدة كنسيج موشى ومطرز من طرف أسرة الحاكة Gobelins(**)، ينبسط إلى ما لا نهاية من كل جانب من جوانب الطريق، لكن، لوسيان لا يعره انتباها، وظل جسمه البدين غائصا في مقعده..فإبداعات الطبيعة بدورها تعنيه بشكل أقل بكثير من تلك التي يبدعها الإنسان. 
إن تفكيره منصب على اللوحة، ويترقب بنفاد صبر وبتركيز صياد أو عاشق، يكفي حضوره المزاد ليثبت بشكل يكاد يكون قاطعا أنها نسخة، ستحوم الشكوك حول غاستون، سيتصور بعض الحضور أن مزايدته ليست سوى مقلبا جديدا يضمن المتعة، وسيتفق المختصون أن اللوحة مقلدة عندما يصير مالكها.

عبر لوسيان عن رضاه وهو يهرع نحو السيارة بسرعة بعد الإفطار الطيب وخداه الورديان غدتا حمراوان: "ممتازة وجبة الحلازين!"، صادق فرنسوا على هذا الرأي، فمزاجه الجيد يعكس مزاج سيده، إنه طويل ونحيف وخمول بالفطرة، لكنه، يطيع دون تأخير جميع أوامره.
لا ينسى أبدا أنه توجب إيقافه عبر الحكومة الإسبانية لحيازته جواز سفر مزيف، محافظته على هدوء أعصابه وحتى على روح الدعابة نجحا في افتكاك إعجاب لوسيان به الذي تكفل بشراء حريته، فهو روسي هرب إلى تشيكوسلوفاكيا حين طالبت الشرطة القصاص منه، منذ ذلك الحين، يعيش في فرنسا في أمان، سعيدا أنه ما زال حيا في خدمة لوسيان الذي عاش بدوره ردحا من الزمن في تشيكوسلوفاكيا. 
في 1924، نشرت أغلب الصحف الأوروبية حكاية جندي مجازف يدعى ليكا مينشوفيك تعرض لإصابة خطرة أثناء مواجهة على الحدود اليوغسلافية.
في سنوات ماضية تم الحديث معه بشأن هذه المقالات،  لينكر دائما أية علاقة له بالحادث، مؤكدا ارتباطه بشخص آخر له نفس الاسم، وانتهى به المطاف بتغييره والاستقرار في فرنسا.

في آي، توقف لوسيان وفرنسوا في نزل الغرباء لحجز جناح مكون من ثلاث غرف، بعدها مضيا إلى متحف النسيج قرب كاتدرائية القديس المنقذ، إذ تم تخصيص الساحة الداخلية لإقامة المزاد في الهواء الطلق.
من المفروض أن تنطلق عملية البيع خلال نصف ساعة، لكن، في هذه البلدة، يبدو أن الناس ليسوا على عجلة من أمرهم.

 أعاقت سيارات من جميع الأحجام والأنواع   حرية الحركة في الشوارع الضيقة حول الكنيسة، هيمنت  جمهرة كبيرة على المكان:  وكلاء وتجار وهواة لم يلزموا أماكنهم بعد، يثرثرون مع بعضهم، إضافة إلى العمال المنهمكين في أشغالهم. استفهم لوسيان موجها سؤاله لفرنسوا الذي يفوقه طولا:"هل ترى السيد بوتان؟"
-"لا، سيدي!"
تدخل تاجر من ستراسبورغ ليخبر أنه لم يسجل حضوره بعد، فهو بصدد تقاسم الغداء مع بعض الضيوف في منزله الكائن خارج المدينة.

قرر لوسيان القيام بزيارة خاطفة لغاستون،  متلهفا كي يحيطه علما باهتمامه باللوحة. عند الوصول أمام الفيلا، بلغ صوت عزف على البيانو مسامعه،  ناء، لكنه جلي جدا،  ميز المقطوعة الموسيقية، إنها لسكارلاتي.
تكفل خادم بمرافقته حتى البهو.
 عبر الباب المفتوح لقاعة الجلوس، رأى لوسيان امرأة رفيعة القوام بصدد العزف،  عشرون شخصا تقريبا من بينهم نساء يصغون وقوفا أو جالسين دون حركة.
توقف على العتبة، عدل نظارته، وميز غاستون حاضرا مباشرة وراء العازفة في تمام التركيز مع الموسيقى، ارتسم الانتشاء على تقاسيم وجهه الذي طفحت منه العاطفة التي تشي بالانشراح.
 ألقى لوسيان نظرة سريعة على بقية الحضور، إنهم جميعا هنا: فون مارتيغ من قاعة عرض دوبرفيل في باريس، فريتز فيبار من فيانا، مارتن بالمر من لندرة..الصفوة دون شك والجميع يصغي للمعزوفة بنفس الاعتناء البالغ لغاستون. لا أحد لاحظ حضوره. الوصلة الموسيقية السريعة التي توقعها المرأة رائعة حقا، إذ تتدفق النغمات من بين أصابعها كقطرات من معين صاف، مع ذلك بالنسبة للوسيان الذي يتمتع بحاسة سمع معصومة من الخطأ تماما كالبصر، هناك شيء ما ناقص بشكل جلي، ألا وهو متعة العزف، هي تمقت  موسيقى سكارلاتي، بل هي تكره الموسيقى عموما.
ابتسم، وتساءل هل من المعقول أنها سحرتهم جميعا  إلى تلك الدرجة؟  نعم، ذاك ممكن، فقد تجلى انبهارهم بشكل لا يصدق حتى أولئك الذين يتباهون بخبرتهم في الفنون.
عندما أتمت، هبت عاصفة التصفيق، اتجه غاستون وهو يتأبط ذراع العازفة نحو لوسيان منبسط الأسارير، كأن الموسيقى أنسته بعض الخصومات التي سبق ونشبت بينهما، وبادره بالقول مرحبا:
- "سعيد جدا لرؤيتك ومتفاجئ حقا، أسمح لنفسي بتقديم أستاذة البيانو، الآنسة "كلار ديهامال" من آي في البروفونس!"
أجاب لوسيان برد لبق معبرا عن سروره بالتعرف عليها، وهو يلاحظ باغتباط علامات حب الاطلاع التي سببها قدومه، واصل غاستون:
-"إنها تعزف بشكل ممتاز جدا، ألا تشاطرني الرأي؟  لقد تمت دعوتها لتقديم مجموعة من الحفلات في باريس، غير أنها، رفضت، أليس كذلك الآنسة كلار، ليس من العدل، الانفراد بموهبتك لوقت طويل!"
ابتسم لوسيان بتهذيب مصرحا أنه علم هذا الصباح فحسب بمسألة بيع اللوحة،  مستفسرا عن سبب عدم توجيه دعوة، فأكد غاستون أنه لم يفعل ليقينه أن لا شيء في هذه المناسبة سينجح في جذب اهتمامه، فهي لوحات أصلية اختارها بنفسه ليتم عرضها في المزاد.
أجاب لوسيان:
- على العكس، أنا مهتم بصفة كبيرة بلوحة إعلان الميلاد، هل تسمح أن ألقي عليها نظرة إذا كانت موجودة؟
رد غاستون وقد بينت سحنته صراحة مدى الاستغراب، مما جعل الرأس المدبب للقلق يطل من الملامح:
- بكل سرور، اتبعني!
طرحت الآنسة ديهامال التي أمعنت النظر إلى لوسيان طوال المحادثة سؤالها بغتة:
- هل أنت أيضا من المعجبين بفن جيوتو سيد مونتليك؟

تفرس فيها، إنها نموذج الفتاة العزباء التي تقدم بها السن، ترعرعت في بلدة قروية، يفتقر هندامها للأناقة، خجولة، أسيرة حياتها الضيقة والمحدودة، يبدو مع ذلك أنها تتسم بطبع عنيد، قوة عصبية أوجدتها كنبتة تنمو على حافة منحدر صخري تعبث بها الرياح.
تضم عيناها الرقيقتان الرماديتان المغروستان في وجهها الصغير نوعا من اليأس إلى درجة الرغبة في إشاحة البصر عنهما بشكل فوري لأنه يستحيل مساعدتها، من العسير تصور شخص أقل فتنة.. عبرت هذه الأفكار ذهن لوسيان سريعا، قبل أن يجيبها": نعم، شيء من هذا القبيل!"، وحث الخطى ليلحق بغاستون.

عند النظرة الأولى للوحة، اخترق قلب لوسيان شعور مميز ،  ذاك الإحساس الذي تمتزج فيه الإثارة بالوثوق، ووحدها النسخ الجيدة قادرة على منحه إياه، تبين له، انطلاقا من اللوح القاعدي أن اللوحة عتيقة تعود إلى أكثر من قرنين، واليوم ستغدو من نصيبه.
علق غاستون بفخر: "هل تأكدت بنفسك أنها الأصل؟"
- " إنها فريدة، أهنئك!"

انتظر لوسيان عملية البيع بتحفظ من ينظر إلى الأشياء من الخارج كأنها لا تعنيه، شد مكبح أعصابه أثناء عرض لوحة Messina دون قيمة، وأخرى لرسام فينيسي مجهول تثير الازدراء متأتية من مجموعة فرهلينجان، مؤكدا لنفسه أنه باستثناء النسخة المقلدة لجيوتو، يملك البارونات فريهليجان ذوقا فنيا رديئا حقا.
انتبه إلى أن الآنسة ديهامال الجالسة على مقعد ممتد على طول الجدار مستمرة في التحديق إليه، تبقى الأفكار التي تتوارى في عمق عينيها الرماديتين غامضة تكتنفها الأسرار، يمكن لمس شيء باعث على الحيرة داخل نظرة العين المتفحصة، ضربا من التعالي المشوب بغضب دون دافع جلي، نزع نظارته ومرر أطراف أصابعه على جفنيه اللذين أطبقهما، حين رفعهما، وجد لوحة إعلان الميلاد تتصدر المنصة.
اقترح رجل لم يره لوسيان مليونا من الفرنكات الجديدة، فزايد بجلاء من مكانه في الصف الأخير" مليون ونصف"، أدار البعض رؤوسهم  لتبين صاحب الصوت، عبرت القاعة وشوشة حين عرفوا أنه لوسيان مونتليك.
صاح نفس المزايد: "مليونان!"
- "مليونان وعشرة آلاف فرنك"، عقب لوسيان الذي أراد إثارة الضحك بهذه القيمة الضئيلة من المزايدة، ونجح في مبتغاه، إذ سمع حروف اسمه ذات الصفير يتهامس بها الجمع الغفير، علت ضحكة أحدهم الساخرة ما دفع لوسيان إلى الابتسام بدوره، يعرف أن هذه الهمسات تعلن أنه تم الانطلاق في الاستفهام عن أصالة اللوحة.

نهض المزايد الذي لم  يصله سوى صوته دون تبين هويته، إنه فونت مارتيغ من باريس، أدار رأسه الأصلع الشبيه بعقاب، مصوبا بصره إلى لوسيان ليعقب ببرود
- "ثلاثة ملايين!"

قام مونتليك بدوره وأضاف:
-" ثلاثة ملايين وخمس مائة ألف فرنك"
- "ثلاثة ملايين  وسبع مائة ألف!"
 رد فونت مارتيغ متوجها بخطابه إلى لوسيان أكثر من اتجاه الدلال، زايد لوسيان بثلاثة ملايين ملايين وثمان مائة ألف، رفع مارتيغ المبلغ إلى أربعة ملايين ومائة ألف.
تم المضي سريعا على نفس هذه الوتيرة ليتجاوز المقابل ثمن لوحة جيوتو أصلية، ذلك لا يعني الكثير للوسيان، فالأمر يستحق هذه الضريبة، والحاضرين بدأ  الشك يتملكهم، فهم يعرفون أن غاستون أخطأ مرات عديدة، لكن، لم يحصل أبدا للويان الوقوع في الزلل.
استمر فونت ماتريغ في المزايدة:
- "أربعة ملايين ومائتا ألف"

رد لوسيان: "أربعة ملايين وثلاث مائة ألف"، وقد استعرت رغبته في رؤية التعابير التي تكسو ملامح غاستون في هذه اللحظة، وهو ما يستحيل لأنه جالس في الصف الأول مديرا ظهره، للأسف!  لم يكن مزادا عاديا بالمرة، غدا مواجهة بين الإيمان ضد غيابه، بين مؤمنين وكفرة، على بعد خمسة عشر مترا من هنا، على المنصة، لوحة الإعلان عن الميلاد، مثل التابوت في إطارها من الورق الذهبي، قربانا للنار المقدسة للفن كما يتصوره ويعرفه كل واحد منهما. 
قال لوسيان بسرعة شديدة: "أربعة ملايين وخمس مائةألف!"، مما دفع فونت ماتريغ إلى شبك ذراعيه والاضطرار إلى الجلوس. ضرب المسؤول عن المزاد بمطرقته وتساءل:
- "أربعة ملايين وخمس مائة ألف من الفرنكات الجديدة؟"
ابتسم لوسيان مستفهما من يستطيع الآن المزايدة عليه؟ جاءه رد من الجهة اليسرى: "أربعة ملايين وست مائة"، إنه رجل يشبه شارل دي قول شابا، يفرد صدره إلى الأمام، كفاه مرتكزتان على ركبتيه وعيناه مسمرتان على الدلال، يعرف لوسيان هذا النوع من البشر جيدا، من نفس طينة "دي قول" بالفعل، مؤمن آخر متعلق بنزعة الكمال.
خمس دقائق بعد ذلك، أصدر المسؤول عن المزاد قرار بيع اللوحة بقيمة خمسة ملايين ومائتين وخمسين ألف فرنك، وهي من نصيب لوسيان مونتليك الذي ذهب في الحال لإمضاء الشيك وتسلم وثيقة الملكية.

قال غاستون وجبينه تعلوه حبيبات العرق، راسما عنوة ابتسامة على شفتيه: "تهانينا! أخيرا، عمل فني أصيل ستضمه إلى مجموعتك..هو الوحيد بينها دون شك!"
- "أصيل؟ ماذا تقصد؟ هل الفن حقيقي؟ ليس هناك أكثر صدقا من التقليد على كل حال!"
- "هل تريد القول أن اللوحة نسخة؟"
- "إذا ليست كذلك، سأعيدها إليك، لو هي أصل لما صببت انشغالي عليها، لكن، ما  كان عليك عرضها على أنها أصلية، لقد كلفني ذلك باهظا".
اصطبغ وجه غاستون أكثر فأكثر بالحمرة وأردف: 
-هناك عشرات المختصين هنا المستعدين لإثبات أصالتها
- لا أطلب أمرا أفضل من ذلك، جديا، بإمكانك استدعاؤهم لجناحي في نزل الغرباء لتقاسم المفتحات، وليجلبوا معهم مكبراتهم وكتب تاريخ الفن، فلنحدد موعدا الساعة السادسة مساء.. هل يناسبك؟
- نعم، اتفقنا!
خرج لوسيان من الساحة واتجه نحو سيارته أين أتم فرنسوا حزم اللوحة بعناية بين القفا وعجلة النجدة، المصادفة دفعت لوسيان للالتفات في ذاك الحين تحديدا.
 رأى الآنسة ديهامال تخرج بدورها وتتجه نحوه ببطء، تمر أشعة الشمس عبر أوراق الشجر مضفية على ظلها بقعا صغيرة مضيئة تنسجها لتزول في لمح البصر كأنغام مقطوعة سكارلاتي.
 خفق قلبه بشدة وقد اخترقه إحساس مبهم، تذكر الانطباع الذي راوده عند الإصغاء، ويقينه أنها لا تستهويها، ومع ذلك لا يمكن إنكار أنها عزفتها بتفوق باهر، ويلزم لتحقيق ما قامت به درجة عالية من النبوغ.
 أحس فجأة باحترام شديد تجاهها، خالجه أيضا شعور آخر لم يستطع تحديده، لعله تعاطف .. رأفة.. أن تجد فنانة مثلها القليل من الاستمتاع في التعبير عن موهبتها،  وتشي هيئتها بأنها مغلوبة على أمرها وتواضعها المفرط.. يسمح للغم باختراق النفس.

عندما غدت قربه، توجه إليها بالخطاب بارتباك لم يعهده:
- "لقد دعوت بعض الأصدقاء على الساعة السادسة هذا المساء آنسة ديهامال، سينالني الشرف إذا رغبت في الانضمام إلينا!"، أضاف حين أعربت عن موافقتها: "تعالي أبكر إذا أردت..."


- "خمسة ملايين ومائتان وخمسون ألف فرنك من أجل لوحة مقلدة!"
 همست الآنسة ديهامال هذه الكلمات وهي شديدة التأثر،  جالسة على حافة كرسيها في صالة الجناح تتأمل اللوحة التي أسندها لوسيان على  الأريكة، وهو يتبختر أمامها، مبتسما في خيلاء وسيجارة تركية بين شفتيه.
كانا وحيدين، فقد خرج فرنسوا، لشراء الخمر Cinzano والفطائر المحشوة والبسكويت.
أعربت الآنسة ديهامال عن تفاجئها دون شطط عندما علمت أن لوحة جيتو نسخة، والآن تنظر إليها بما تستحقه من احترام. دفع إحساس الظفر لوسيان إلى التصريح بأفكاره كاشفا عن شعوره:
- في أغلب الأحيان، ندفع ثمنا أغلى للنسخة، مثلا هذا الشعر الذي ألمسه..."
 واصل الحديث، وهو يربت على خصلاته الكستنائية الفاتحة قليلة التموج:
- "إيه، نعم! ..إنه شعر مستعار من أحسن ما يمكن أن تنتجه باريس، إذا الطبيعة وهبته، لن يكلف حينها شيئا، مختصر القول، لن يتمتع بأية قيمة بالنسبة لرجل ليس أصلعا، لكن، إذا اشتريته لمواراة نقص ما، يلزم دفع مائة وخمسين فرنكا، عند التفكير في الجهد والخبرة اللازمين لإنتاجه، نتيقن أنه الثمن المستحق.
خلع لوسيان باروكته وعرضها متباهيا،  فروة رأسه مماثلة لجلد وجهه، معافاة وردية صبغتها الشمس قليلا،  وهذا لا ينقص شيئا من طلته بالنسبة لرجل في سنه، يقتصر التفاجؤ على صلعه لا غير، هذا كل ما في الأمر.
- "لم يدر بخلدي أنك تضع شعرا اصطناعيا سيد مونتليك!"
نظر إليها، واستشف الاهتمام الذي توليه لخطابه من وضعية رأسها المائلة، يجب الاعتراف بامتلاكها سمة من سمات الفتنة والظرف أيضا، ما حثه على مواصلة الحديث:
- "وإذا طبقنا نفس المبدأ على لوحة جيوتو، يمكننا القول أن العبقرية الكامنة في الأثر الفني هي أيضا منتوج الطبيعة، هبة من السماء ربما، وفي جميع الحالات، مقدرة لم تكلف صاحبها شيئا ولم تتطلب منه جهدا، باعتبار أنه يخلق ككل الفنانين الحقيقيين للضرورة، لكن، إذا اعتبرنا المسكين الفاني الذي أبدع تقليدا يقارب الكمال.. إذا فكرنا فيما تتطلبه إعادة إنتاج كل لمسة فرشاة إلى درجة التطابق، نتبين حجم المجهود المبذول، هل تفهمين إذن لماذا أبوئ عمل المقلدين مكانة أرفع أو بالأحرى لماذا أثمنه قيمته الحقيقية؟"
 أصغت الآنسة ديهامال، مؤكدة بعدها صحة الرأي الذي أدلى به، وجلاء موقفه بالنسبة إليها.
- .. وفيما يتعلق بك آنسة ديهامال، هل يمكن أن أسمح لنفسي بالتصريح عن سبب تقديري لك..لأن لك موهبة كبيرة في خداع مستمعيك. إن عزفك لمقطوعة سكارلاتي، منتصف هذا النهار، على سبيل المثال، يمكن اعتباره الأجود حين نتحدث تقنيا، شيء واحد فقط لم يبلغ المستوى المنشود..
تردد قليلا قبل المضي في خطابه، لكنها، استعجلته  وقد شابت سحنتها علامات الحيرة، مستفسرة:" حقا؟"
- هذه الموسيقى تثير رعبك، أليس كذلك؟
نظرت إلى يديها الطويلتين، بأصابع سلسة ومرنة لكفين مبسوطتين على الركبتين، أجابت:
- "بلى، إنها تفزعني، أكره الموسيقى..إنه...
صمتت والتمعت عيناها بالدموع، لكنها، أبقت رأسها مرفوعا وألجمت عبراتها.
ابتسم بشكل عصبي، فهو لا يحذق  تطييب خاطر الناس مع ذلك أراد التسرية عنها دون معرفة السبيل  لمواساتها. هتف:
-" لا يجب البكاء من أجل هذا السبب، إن لديك موهبة لا نظير لها، تعزفين بطريقة فائقة الجودة، يزيد  جٓلدك على الملل إعجابي بك، لأنه شعور ليس من الهين التساهل معه وتطويعه، أنت  قادرة على تقديم حفلات  في كل مكان في العالم، أراهن أنه لا يوجد ناقد واحد ضمن ألف يمكنه كشف مشاعرك الحقيقية، وحتى إذا فرضنا وجوده، لن يتجاوز الأمر تعليقا دون أهمية، وموسيقاك ستدخل السرور وتهب الانشراح للملايين والملايين من الأشخاص!

أخذ في الضحك، قبل أن يدرك ما الذي هو بصدد القيام به،  إذ بسط كفه وضغط على كتفها بمودة.
ارتعدت من لمسة أصابعه، استرخت على الكرسي، وبدا أنها غدت أصغر حجما إلى درجة أنها لم تعد سوى تلك النواة الصلبة لليأس.
- "أنت الوحيد الذي اكتشف الأمر. في طفولتي، علمني أبي العزف على البيانو، ليجبرني، حين صرت شابة، على التمرن بشكل مكثف إلى درجة لم يعد لي الوقت  للقيام بأي شيء آخر .. لربط علاقات مع أصدقاء على سبيل المثال، هو عازف الأورجن في الكنيسة في آي، وأراد أن أصبح عازفة منفردة في جوقة، لكني، أعرف أني غير مؤهلة لأني أمقت الموسيقى، بلغت من العمر ثمان وثلاثين سنة حين تلقفته المنية، سن متأخر جدا للتفكير في الزواج، لذلك بقيت في قريتي، أكسب ما أعول به نفسي بتقديم دروس على العزف على البيانو، وينتابني خزي شديد لادعاء حب ما أكرهه، أخجل بشدة من تعليم الآخرين حب ما أمقته .. عزف البيانو..!"..ابتلعت شهقة صوتها بعد نطق كلمة " بيانو".

تملك لوسيان شعور يؤجج الشغف بالحياة وسرى في أوصاله الانتشاء الممزوج بالاستثارة، لم ينجح في السيطرة على انفعالاته، والبقاء في مكانه، أراد...
لا يعرف تحديدا ما الذي يبغيه، حاول إقناعها أنها مخطئة بالإحساس بالخجل ومجحفة في تعذيب نفسها جازما: "من غير المنطقي الأخذ على محمل الجد شيئا لم تحبيه منذ البداية، انظري يا آنسة.."، وبحركة ظريفة، فصل ذراعه اليمنى، وأمسك بها في يده اليسرى، إنها مقلدة بصفة مثالية الصنع، بقي كم القميص فارغا،  كادت أنفاس الآنسة ديهامال تنقطع من شدة الانبهار، فاستفهمها وقد غمره سرور طفل نجح مقلبه: " لم يساورك شك بخصوص هذا الأمر، فأجابت مؤكدة:" "إطلاقا!"
- "انظري إنها نسخة طبق الأصل من اليسرى، مع بعض الحركات التي غدت الآن آلية، أستطيع أن أمنح انطباعا أن يدي الاصطناعية تتعاضد مع الأخرى في انسجام تام".
 هتفت بافتتان وهي تتابعه يعيد الذراع إلى مكانها بسرعة:"
- "إنها أعجوبة حقيقية!"
- ' معجزة من البلاستيك العصري فحسب، ينطبق ذاك على قدمي اليمنى!"
طوى لوسيان أسفل سرواله بعض الصنتميترات، لا يمكن رؤية إلا حذاء أسود وجوربا عاديين تماما، استرسل موضحا:
- "لقد أصبت منذ أمد بعيد،  تشرذمت حرفيا إلى قطع! هل علي جر جسدي كالسلطعون لإثارة الاشمئزاز أو الفزع أو الشفقة؟ جعلت الدنيا كي تعاش، أليس كذلك؟ سخرت الحياة للعطاء والأخذ باستمتاع، أنت تهبين البهجة، الشيء الوحيد الذي ينقصك هو معرفة استقبال المتعة وأخذ نصيبك منها!"
رنت ضحكته صريحة داخل صدره العريض تعبر عن الرضى العميق، مما دفع الآنسة ديهامال للابتسام بدورها وبعدها انساقت إلى الضحك..
في البداية، ضحكة حذرة متوارية، شبيهة بقرقعة خفيفة لباب ظل مغلقا منذ أمد بعيد، لتزداد اتساعا، منطلقا صداها في جميع الاتجاهات، منبثقة من روح استردت عافيتها وشجاعتها.
واصل لوسيان مدفوعا بالمشاعر التي أثارتها اللحظة:
-.. أذني أيضا اصطناعية، هل يلزم حقا أذنين لتبين ما أصغيت إليه في موسيقاك آنسة؟ لاحظي كم هي شبيهة بالأذن اليسرى، لكن، ليس بشكل كامل، لأن الأذنين ليسا أبدا متطابقين بصفة كلية.." 
لا يستطيع جذب أذنه المزروعة لانتزاعها، اكتفى بقرصها وهو يغمز قائلا: "..عيني اليمنى أيضا.. أجنبك الخوض في التفاصيل، غير أنها في نهاية المطاف عين من زجاج، يتحدث الناس دائما عن "نظارتي العجيبة"، حين يستحضرون أحكامي التي يثقون بها تمام الثقة، أحمل هذا المنظار للمزاح، لدفع الاستفزاز إلى أقصى التحدي، هل يمكنك تفريق عين عن أخرى؟"
اقترب لوسيان منها، ومال بجذعه ونظر إليها مباشرة وجها لوجه، بدت عيناها الرماديتان براقتين خلف شراع الدموع، صرحت بعجزها عن ذلك فبلغ قمة الفرح، وأضاف: "..حين أقول لك القدم، أعني أن الساق كلها من البلاستيك المقعر!"،  وضرب الفخذ بقلم رصاص أخذه من على الطاولة، فدوى فراغها المجوف.
-.." لكن هذا لا يمنعني من الرقص، لم يلاحظ أحد أبدا أني أعرج، هل تريدين أن أواصل؟"، ردت عليه بضحكة تؤكد الإيجاب، قالت وهي ترمقه بإعجاب: "إني، لم.."

قاطعها ليستمر في استعراضه: "..لا أغفل أسناني، بعد إصابتي، لم يبق لي سوى ثلاث أسنان تقريبا بالكاد سليمة، كنت شابا في تلك الآونة، لقد أنقذت حياة قائدي وكافأني براتب يؤمن لي حياة مترفة على كل حال، أسناني هي منتج ياباني من تصميم فنان مختص في مجال التقليد، تتساوى مواهبه التصويرية دون شك مع تلك التي يتمتع بها ليوناردو دي فينشي، إنه يدعى تايو ميشيغاوا، لكن، قلة من يعرفون اسمه، أسناني ملأى بالعيوب بكل تأكيد، مثل الحقيقية، من وقت لآخر ، أذهب عند تايو، على سبيل التسلية، ليقوم ببعض عمليات الترصيص أو تلبيس معدني لضرس.. لم تخالجك الريبة بشأنها آنسة؟"
أجابت بصدق: "قطعا.. لا!"
-"إذا استطعت خلع كل ما عندي من اصطناعي، ويشمل عظم الساق الأكبر الفضي من الساق الأخرى، وخاصرتيّ من البلاستيك، ماذا يتبقى مني، ليس شيئا كثيرا. ما عدا الروح..ستبقى لا ريب، هل يبدو لك غريبا أن أتحدث عن الروح؟"
- "أبدا!"
- "أعرف أنك تفهمينني؛ من غير المجدي طرح هذا السؤال عليك، أنت أيضا تنتمين إلى الصفوة التي تتمتع بروح تسمو بكفاءة في مجابهة التحديات،  مثبتة ما تتسم به الطبيعة من وضاعة أحيانا، فساعات العذاب الذي تكابدينه عزفا على البيانو، ليست وقتا ضائعا، لا يرتبط ذلك برأي شخصي، إنما بسبب منحك الانشراح لمن  يصغي إليك، لأنك قادرة على وهب الاستمتاع في كل مرة تعزفين فيها!"
خفضت الآنسة ديهامال بصرها متأملة أصابعها، وقد احمرت وجنتاها حبورا، مستمرة في الإنصات إلى بوحه:
-" يعاملني النقاد وتجار الفن كهاو .. هؤلاء الحمقى بالطبع لم يستوعبوا أني فنان! بكل أسف! بالنسبة لهم المولعون بالفنون لا يعترفون إلا بما هو أصيل، لكن، في الحقيقة، هم من لا يقدمون أية فائدة! أنت تفهمينني لأنك مثلي، على أنهم ينظرون إلي كدابّة طُلعة لافتة للانتباه، يسخرون مني وفي نفس الآن لا يستطيعون الامتناع عن الإعجاب بي ويغبطونني أيضا لأني لا أخجل من التصريح بذوقي.. لقد طرق الباب، أعتقد أنهم وصلوا!"
نظر إلى ساعته،  يبدو أن فرنسوا لم ينجح في العثور على الفطائر المحشوة التي يفضل نوعا منها على وجه الخصوص، ولوسيان لا يريد التكفل بفتح الباب بنفسه، نهضت الآنسة ديهامال واقترحت: " هل تريد أن أستقبل ضيوفك؟"
حدق إليها مذهولا، بدت هيئتها أكثر فخامة وعظمة وتنبعث منها أشعة المسرة، لم يستطع التصديق وهو يلمس  التغير الذي طرأ عليها،   انتشرت اللمعة التي رآها في عينيها على كامل جسدها،  هو أيضا أحس بسعادة لم يخبر نظيرا لها سابقا، ربما هو الإحساس الذي يتملك الفنانين بعد خلقهم لإبداع ما،  إنه كواحد من هؤلاء الذين حظوا بهبة من الطبيعة.
 أجابها:
- "إنه شرف بالنسبة لي!'
حضر غاستون رفقة أربعة تجار، واحد منهم يحمل لوحة الملوك المجوس في بيت لحم لجيوتو المتأتية من مجموعة خاصة، رحب بهم لوسيان بحفاوة، توافد بعد ذلك أشخاص آخرون، وأخيرا جلب فرانسوا المقبلات. وضع الرجل اللوحة إلى جانب تلك التي تخص الإعلان عن الميلاد، وسددوا النظر جميعا بعد إخراج مكبراتهم.
قال غاستون بجذل إذ بدا مستعيدا لثقته:
-"أؤكد لك أنك اشتريت لوحة أصلية! على كل حال، لقد ثمنتها قيمتها، لا يمكن قول العكس"
بيده الاصطناعية، أشار لوسيان بحركة نحو الفريق الموجود قرب الأريكة معقبا:
- "لم ينطق المختصون بعد بقرارهم الفصل، أليس كذلك؟ ستساعدهم مكبراتهم على إثبات ما اكتشفته بالعين المجردة!"
ابتعد مطمئنا للانضمام إلى الآنسة ديهامال والسيد باليسي اللذين يثرثران في ركن من الغرفة، رمقها وهتف في نفسه إنها حقا فاتنة، يداها الجميلتان ترفرفان لتجسيد حديثها، ما لم تكن تجرأ على القيام به  خفرا ووجلا قبل نصف ساعة من حديثها معه، اعترض سبيله غاستون، قبل بلوغ وجهته، وسأل:  "أنت مصادق تماما أنها أصلية؟" متحدثا عن اللوحة التي جلبها التاجر.
أجاب لوسيان:
- "لا ريب، لطالما اعتقدت أنها تفضح نوعا ما عدم المهارة، لكن لا يوجد أدنى شك أنها أصلية"
- "تأمل لمسات فرشاة الرسم، قارنها بتلك التي على لوحتك، حتى الطفل يمكنه تبين ذلك، الفرشاة التي استخدمها لرسم خلفية كلتا اللوحتين فيها عيب، هناك شعرتان تركتا آثارا هنا وهناك بكل وضوح،  رسمت اللوحتان في نفس الآونة، وفي جميع الأحوال، إنه الرأي المتفق عليه!"
انحنى لوسيان، وجثا قرب اللوحتين.
واصل غاستون:
- "لسنا بحاجة إلى مكبرة حتى لاكتشاف ما سلف وذكرته، لكني قمت بصور فوتوغرافية لتكبير التفاصيل فقط لمزيد التثبت، هاهي لدي إذا أردت تفحصها!"
لم يلق لوسيان نظرة على الصور الفوتوغرافية  الموضوعة على الأريكة، لاحظ جيدا بعينه السليمة خدشا رقيقا، هنا وهناك، مقدار شعرة مع خدش آخر أكثر رقة في الجانب، أثرا فارقا تركه مرور ذات الفرشاة، نفس العلامة حاضرة في اللوحتين كأنها عن سابق تعمد، وواضحة جدا عند التأمل، ومع ذلك ليست جلية إلى درجة تستحق نسخها من طرف المقلد.
تملك لوسيان الدوار، بعدها أحس بانزعاج حاد أطبق على صدره، أدرك وهو منحن أمام اللوحتين أن جميع الأعين مصوبة نحوه.. الأشد إيلاما هو ظهوره أمام الآنسة ديهامال معرضا للخطإ وأنه ليس جديرا بمستوى الثقة. 
 قال غاستون بهدوء بكل بساطة دون أن يبطن خبثا أو رغبة في التسبب في الأذى كأنه يسترعي الانتباه مشيرا إلى شيء وجب تبينه منذ البداية:
- "وجب عليك الاعتراف أن اللوحة أصلية!"

تملك لوسيان شعور أن قصرا من الورق يتقوض، وأنه هو هذا القصر ، لقد تبين عند التمعن في  اللوحة التي ظنها نسخة، إمكانية الخطأ في الحكم من النظرة الأولى، كان من السهل جدا أن يقدم تقييما صحيحا للوحة ومعرفة أنها أصلية..لكنه، أخطأ!
استدار نحو المدعوين، متجاهلا جفاف الحلق وطعم الرماد في فمه معترفا لهم بزلته. انتظر أن تعلو ضحكات، لكن، سرت همهمة عابرة كتنهيدة جماعية، لقد فضل السخرية منه عوض ردة فعل شبيهة، لم يغب تبادل البسمات على كل حال، حك فونت ماتريغ رأسه برضى مبتهجا لضبطه متلبسا بالخطأ.

استعاد لوسيان شيئا فشيئا هدوءه، بيد أن لا أحد أدرك البلبلة التي اعتملت داخله. لم يتوقف قصر الورق عن الانهيار، للمرة الأولى في حياته، أحس أنه على وشك البكاء، نظر لنفسه مجردا من كل الاصطناعي الذي يشكله، مقصيا عصمته من الخطأ..إنه بالكاد رجل، بقايا إنسان، وعى لبعض الثواني بصفة كلية حقيقة وضعيته وأوشك ثقل  الإدراك على تحطيمه.
حدثه غاستون بلطف من بعيد موجها خطابه نحو الأذن الاصطناعية:
-"بطبيعة الحال، إذا أردت بيع اللوحة، سأدفع لك الثمن الذي..."
- "لا.. لا! أشكرك"
 هاهو ذا غدا لا يحتكم إلى المعقول متخذا قرارا مجانبا للمنطق! ماذا يفعل بهذه "الأصلية"؟
 خطا بساق مرتعشة، وتعثرت ساقه الاصطناعية، وهو يتجه نحو الآنسة ديهامال المحافظة على هدوئها كأن شيئا لم يحصل، واقترحت عليه وقد انتحت به جانبا كي لا يسمعها أحد:
- "لماذا لا تقول لهم أن ما جرى ليس سوى دعابة؟"
 تأمل وجهها برهة طويلة محاولا أن يستمد الشجاعة  من تقاسيمه التي فاضت فيها مشاعر الانتصار، غير أنها محاولة دون جدوى، وأجابها:
-"لكنها، ليست مزحة!"

 غادر المدعوون ولم يبق سواها، وبكل تأكيد لوحة جيوتو الأصلية،  أما فرنسوا الذي ربض في ركن من القاعة، وشهد الإخذاء الذي تعرض له سيده، ظل أخرس كشخصية في جوقة أثناء تراجيديا، عند انتهائها، طلب الإذن للانسحاب.
جلس لوسيان بتثاقل على الأريكة، وتكلم ببطء بنبرة عميقة المرارة:
-'سأحتفظ بهذه اللوحة.. حتى وإن بقيت مخفية!"
رغم علمه أن صوته حقيقي، استنكره ولم يتعرف على رنته، واصل حديثه:
-"..إنها الأصلية الوحيدة التي ستكدر صفاء النسخ وتدنس نقاءها، في جميع الأحوال، في الحياة، لا شيء صاف بشكل تام لا مزج فيه، المطلق لا وجود له، في شبابي، اعتقدت أنه لا يمكن لأية رصاصة النيل مني، إلى أن أصابتني قنبلة يدوية، واليوم، بينت على الملأ أني عرضة للخطإ!"
-"أنت تعرف جيدا أن المطلق لا وجود له، حتى قطي الصغير يستشعر ذاك بغريزته!"
نظر إليها لوسيان حانقا، لقد نسي لبعض دقائق وجودها، وراوده نفس الشعور بأنه لا يطيق حضورها حين وجهت إليه الحديث للمرة الأولى في قاعة جلوس غاستون.

كانت واقفة إلى جانب منضدة بثلاثة أرجل مزخرفة، أين توجد قفازتاها المحاكة بخيط أخضر وحقيبتها المربعة المسطحة، حدقت إليه بحيرة غير واثقة من التصرف الذي عليها سلكه، قررت بعدها الاقتراب وجلست حذوه وأمسكت كفه الاصطناعية، لكنها، لم يبد أنها لاحظت ذلك وتشبثت بها بمودة كأنها حقيقية.

تنهد لوسيان الذي أراد، في البداية، سحب كفه، ليتراجع فأية أهمية ما زالت جديرة بالإيلاء بعد كل الذي جرى؟ إن هذه الملامسة التي يعجز عن الإحساس بها جعلته يعي بخطإ آخر في التقدير في الحكم أقدم بكثير من زلة اليوم.
لقد اعتقد أنه لن يشعر أبدا بقربه من شخص ما، ولن يسمح لنفسه بالتمادي والمضي بعيدا في العاطفة، مع ذلك يحس أنه قريب من الآنسة ديهامال.. أكثر ألفة من فرنسوا الكائن الوحيد في العالم -باستثناءها- يعلم أن لوسيان مونتليك ليس في الأصل، سوى قصرا متزعزعا من ورق، غير أن فرنسوا هذا الشاب الأرعن لم يعايش الوجع..خلافا لها!
شعر نحوها بالحنان والإعجاب، وجودها أيضا قصر من ورق، لكن، إذا المطلق لا وجود له، بالتالي، لم يعد هناك حضور لهذا القصر، ويستطيع إعادة تشييدها، بيد أنها لن تكون مثالية أبدا.. في جميع الأحوال، لم تتسم يوما بالكمال. كم كان ساذجا! هو الذي تباهى دائما بمعرفته لأدق العيوب في مجال الفن.
نظر لوسيان بدهشة إلى أكفهم المتشابكة، لقد مر وقت طويل دون أن يحظى بأصدقاء. بدا قلبه في الخفق كفؤاد عاشق، كم من الرائع أن تقطن معه الآنسة ديهامال وأن تعزف البيانو له ولرفاقه، ويغمرها بترف لا تقدر أبدا على وهبه لنفسها!
عبر هذا التفكير خاطره بشكل خاطف كظل طائر تجلى سريعا على العشب.. أن يتزوجا يا لها من فكرة! ألم يتوصل إلى استخلاص أن لا شيء كامل؟ لماذا يحاول إذن تحسين ما هو جيد بالفعل..هذه السعادة التي يحسها في اللحظة الراهنة.
 سألها بكثير من الإجلال:
-"هل تقبلين صداقتي؟ هل توافقين أن تصبحي رفيقة  رجل قلبه ملتبس بشكل فطري ومخلص في أن يكون صديقك..رجل حتى كفه اليمنى اصطناعية؟"
همست بولع تجلى في صوتها:
- "أعتبرها كفّ بطل!"
اعتدل لوسيان في جلسته، وقد فاجأه ردها، وردد متهكما، لكن، الفرح غمر أعماقه: كفّ بطل.

-----------

(*)Giotto Di Bondone 1266-1337
رسام ونحات إيطالي
(**)Gobelins
أسرة من النساجين غادرت فيينا واستقرت في القرن الخامس عشر في باريس حيث أسست مصنعها.
مجلة فن السرد | محاكاة


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث