تجليات الواقعية الاجتماعية في "خَفْقٌ إِلَى أَعْلَى وَإِلَى أَسْفَل " للقاص المغربي أحمد شرقي | كمال العود

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد قصة قصيرة

مجلة فن السرد


حسب تعبير الكاتب الفرنسي غي دي موباسان "إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة". فالقصة القصيرة هي النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر، الذي يتسم بالسرعة والاختزال. إذ تناسلت أنواع سردية جديدة من قبيل الأقصوصة والقصة القصيرة جدا (ق.ق.ج)، لتميزها بالقدرة على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وإنتقاء مهمين.

"خفق إلى أعلى وإلى أسفل"1 مجموعة قصصية للمغربي أحمد شرقي صدرت عام 2024 عن دار "ذاتك للنشر والتوزيع والترجمة" بمصر، وتتضمن 24 قصة قصيرة وقصيرة جدا. تناولت موضوعات كثيرة وواقعية، توزعت بين قضايا حياتية راهنة وإنسانية عامة. وأبرز تيماتها فيروس كورونا، والموت والخيانة الزوجية، والهجرة والكتابة القصصية.

وتنقسم المجموعة القصصية إلى قسمين، قسم أول عنوانه "خفق إلى أعلى"، وفيه تطرق القاص إلى مواضيع متنوعة؛ كموضوع زلزال أكادير في بعده الإنساني والمأساوي والاجتماعي، وارتداده المعنوي والنفسي العميق، وصوره المثقلة بالموت والرعب والدمار. " كان يسرد كل يوم أحداث زلزال أكادير لسنة 1960، الكارثة التي دمرت المدينة بأكملها، وذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الأرواح، ومن بينهم أسرته الصغيرة"2 ، " تعذبت بعد رحيل قرة عيني زوجتي، وفلدة كبدي ابني، كما بترت قدمي اليمنى"2. كما تطرق إلى موضوع متحور كورونا باعتباره وباء من الأوبئة الخطيرة التي عرفها العالم في عصرنا الحالي، وأبعاده التراجيدية " أُغلقت الحدود فجأة، لا نحن داخلون، ولا نحن عائدون" 3، " سنموت هنا؟...كنت آمل لو سافرت بنا تلك الطائرة الملعونة إلى المستقبل"4.

أما موضوع الخيانة الزوجية فتطرق له في قصة "شعاع ودائرتان"، باعتباره تيمة أدبية وفنية شائعة تعالج الآثار النفسية والعاطفية المدمرة للخيانة، سواء بالنسبة إلى الزوجة المخدوعة أو بالنسبة إلى العلاقة الزوجية ككل، وغالبا ما تقدم التيمة تفاصيل عن دوافع الخيانة أو عن رحلة التعافي من تبعاتها " انسحبت منال، وتركته يبرر غيابه لليلة واحدة، متفادية صداع الرأس. لقد أضحت تؤمن بأن تلك العلاقة ماتت منذ زمان.. لا سكينة فيها ولا لذة"5.

وفي قصة "فرح آخر" يتناول الكاتب البرامج الفكاهية ومحتواها : "إن ما يصطلح عليه 'فن الستانداب' اليوم مارسته في السبعينات، وكان له شأن، وكان هادفا..، صعود الخشبة ليس بالأمر الهين وليس متاحا لكل من هب ودب.. لكي تضحك الناس يجب أن تكون باحثا ومثقفا حقيقيا"6.

 في قصة "الجمال" يقوض الواقع أحلام الإنسان، أحلام الهجرة إلى الضفة الأخرى، فهذه القصة حافلة بحدثها ومسائِلة للإنسان وتفكيره في مصيره، عن طريق الرحيل والهجرة إلى ما يجعله يعانق الإحساس بالأمان والحرية، رغم كل ما يمكن أن يواجهه في طريق الرحلة.  وقد نجح القاص أحمد شرقي في رصد عوالم هذه الشخصيات (فؤاد، DRAME،...) التي تحلم بالهجرة إلى الضفة الأخرى: "حتى أفلت من جحيم هذا القبح؟ وأعبُر إلى قارة الجمال، حيث كل شيء ساحر وفاتن، حيث الأورو ينتظر والفرص تنادي، والشقروات الأوربيات.. آاه من الأوربيات.."7. فالرحلة لم تكن كما توقعها فؤاد ورفيقه "حاصرهم الجنود المسلحون من كل زاوية، حاول DRAME الفرار، لكنهم أطلقوا كلابهم المدربة... في رمشة عين فقد بعضهم أطرافا من أجسادهم، وكان كلبان مسعوران قد انفردا بفؤاد، وافترسا يديه.. كان مستسلما بشكل غريب"8.

يبرع الكاتب وبنفس سخري في وصف الهجرة العكسية من أوربا نحو افريقيا، فحلم الفردوس يتحول من الإنسان الافريقي إلى الأوربي "كان فرانسوا كجميع شباب أوربا، يحلم بالفردوس الإفريقي"9 وقد انقلب رهان مواجهة ظاهرة الهجرة السرية للدول الافريقية "في تلك الأعوام، كانت السلطات المغربية، بتعاون مع نظيرتها الاسبانية، قد ضيقت الخناق على المهاجرين الأوروبيين المتدفقين نحو افريقيا، عبر بوابة سواحل المغرب"10. وقد استعمل القاص السخرية كتقنية نقدية يرتجى من توظيفها طرح المفارقات، لإبراز الخلل الذي يعتلي الممارسات المجتمعية والفردية، فهي لا تفرض نفسها في القصتين "المنقذة" و "المطرود" قصد الاضحاك بل كأسلوب يتخذه القاص شرقي ليبني موقفه ونظرته للواقع والعالم من حوله.

أما القسم الثاني من المجموعة فعنوانه "خفق إلى أسفل"،  وركز على فعل الكتابة بوصفها ميزة من مميزات الكائن البشري، لذلك كان حضورها في القسم الثاني من المجموعة علامة فارقة ساهمت بامتياز في إثراء عالمها الابداعي، وما تكرار كلمات (قصة، ورقة، عنوان، نص، كتب، القصص...) إلا علامة واضحة لهيمنة موضوعات الكتابة على باقي الموضوعات الأخرى التي تجسدت في الصفحات الأخيرة من المجموعة على شكل قصص قصيرة جدا.

ففي قصتي "العنوان" و "الطريق إلى اسبرانزا" ارتبط فعل الكتابة بالمقهى باعتبارها مساحة حيوية للفعل الإبداعي، حيث تتوفر بيئة ملائمة للكتابة وفضاء للتواصل الثقافي "في الطابق العلوي للمقهى، وفي ركن منعزل، نصيبه من صبيب الأنترنيت ضعيف جدا...وكأنه محجوز لي ولأوراقي، وكتبي كل يوم"11، " صباح صيفي مشرق يغري بالحياة، أسرع الخطى نحو المقهى 'اسبرانزا' لألتقي بصديق ناشر وناقد ينتظرني هناك"12.

في قصة "صديقي فلوبير" عاد بنا القاص إلى القول الشائع "الزمن أصبح زمن الرواية لا زمن القصة القصيرة"، من خلال توجه اهتمام القراء إلى الرواية كنوع يحتل الصدارة في النشر والتوزيع، واحتلالها المراتب الأولى في المشهد الأدبي، بينما تتراجع القصة إلى مراتب أقل على مستوى الانتشار والنجومية "دافع عن الرواية التي يحب، ودافعت عن القصة القصيرة التي أدمن: هي، على الأقل، سي عثمان، قصصي.. لا أقلد فيها أحدا، ولا أنسخ نصوصا لغيري"13.

ما يثير الاهتمام في مجموعة "خفق إلى أعلى وإلى أسفل" هو الحضور الكثيف لشخصيات فنية افتراضية، هذا لا يعني أنها غير واقعية، لكن واقعيتها هنا تكمن في أن ما جاء منها في القصص يمكن أن نكتشف له أشباها في الحياة الواقعية، فقد نجح القاص في رسم شخصياته بصورة تنبئ  بخبرته بالحياة المغربية، وبمعايشته للناس وأحوالهم، ولم نجد أي تنافر في نسج كل شخصية، أو خروج عن المنطق. مهارة القاص أحمد شرقي جعلت للشخصية جوانب إنسانية عدة، إذ ينغمس القارئ في أجواء البيئة المغربية، فقد اعتمد الكاتب عليها كثيرا في تشكيل الأحداث باعتبار أن الشخصيات مكون رئيسي لا يقوم الحدث إلا به.

أما المكان فيعطي للأحداث سمتها الواقعية، كما أن الشخصيات مرتبطة بالمكان، تؤثر فيه ويؤثر فيها، حيث استطاع القاص توظيف هذه الأماكن بما لها من رموز ودلالة، فهناك المطار، المقهى، الدكان، المنزل...، هذه الفضاءات شكلت خلفية النصوص السردية، ومنها تشكل المشهد القصصي، فتحول النص إلى خشبة مسرحية تؤثث مساحاتها شخصيات القصص، بكل ما تحمله من خصوصية وتركيبات نفسية واجتماعية، مرت عبر وقائع حقيقة (كورونا، زلزال أكادير، الهجرة...) وغذاها خيال القاص.

على سبيل الختم:

 ترى الكاتبة ماري أوكونور أن القصة القصيرة الممتازة تتمحور حول لحظة حاسمة حيث يصبح التغيير المحتمل واقعا للشخصية. هذه اللحظة لا تحدث بالضرورة في نهاية القصة، وليس من الضروري أن تكون النهاية ملهمة أو كاشفة. بدلا من ذلك، القصة القصيرة الجيدة تترك تأثيرا دائما في الذاكرة، مما يدفع القارئ إلى التأمل. وتجسد مجموعة أحمد شرقي القصصية هذه الفكرة، حيث أن كل قصة قصيرة سهلة القراءة، لكنها تترك تأثيرا عميقًا.

الإحالات:

1. أحمد شرقي، خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل، قصص، دار ذاتك للنشر والتوزيع، مصر، 2024.

2. نفسه، ص: 12.

3. نفسه، ص: 12

4. نفسه، ص: 16.

5. نفسه، ص: 16.

6. نفسه، ص: 25.

7. نفسه، ص: 36.

8. نفسه، ص: 44.

9. نفسه، ص: 49.

10. نفسه، ص: 50.

11. نفسه، ص: 59.

12. نفسه، ص: 64.

13. نفسه، ص: 64.

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات 


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث