يمكنك أن تجرب كل شيء مادمت تؤمن أن الحياة طويلة، لكن هنا، عليك أن تنسلخ من معتقداتك السابقة حول الحياة والموت؛ فلا شيء هنا سوى الموت، ثم الموت، ثم الموت… ثم قليل من الحياة.
قد تسألني عما نفعله حتى نبدو سعداء هكذا؛ إننا، ببساطة شديدة، نتقبل الموت، وعندما تكتنفنا الحياة برهة، ننغمس فيها كأنها الأبد.
سوف تلمس هذه المعاني قريبا، قريبا جدا، عندما ستعبر قرب ذلك الجدار؛ حيث اللافتة المغروسة بجانبه تنذر: "جدار مهدد بالسقوط"، أتعلم أنها هناك منذ عشر سنوات؟ كما أن اللجنة التي قررت ذلك لم تعد من حينها؛ فظل الجدار مثلنا، متشبثا ببقاياه، وبنا. لن يسقط الجدار إلا إذا غادرناه، إلا إذا انتفت نسمة الحياة من جواره.
سوف تلمس هذه المعاني حين سأفتح باب منزلك (في حال قُدّر له أن يصير منزلك)؛ فيصفعك خليط روائح لم يخالج أنفك مثلها، عبق تكَثّفَ بأيدي الزمن، فيه شيء من رطوبة قديمة وغبار، شيء من أريج أطعمة ولَّتْ دنيا آكليها، دخان بخور عالق بالجدران، نفحات خشب مهترئ مع جلد كنبة عتيق، شذا عطر انزلقت قطراته على عنق عروس في ليلتها الأولى…
سيكون عندك الوقت الكافي للاكتشاف؛ المدرسة التي ستعمل فيها ستخبرك، والبئر القابعة في ساحتها، والصومعة المشرئبة من خلفها. ستنظر إلى عيون تلاميذك، أولادنا؛ فتظن أنك ربما ستزرع فيها لمعة أمل، أنك ربما ستفتح أمامها بوابات تطل على حياة ما من حيث أتيتَ، بيد أنك ستبقى رهين قيود ظنك، حين تراهم عائدين حاملين ملامحهم الأصلية كل صباح. قد تحسم أمرك وتعلنها حربا على زَفر التقاليد المنبعث من هذه الكائنات البريئة؛ فتتساءل في وحدتك عن الأسباب والغايات، تتساءل عن حال العقول الصدئة في بقعة الكون هاته، لكني، سأستبق الجواب: إنهم قوم عرفوا أنهم محاطون بالموت، فسايروه وصنعوا داخله حياة، لهذا، حاول أن لا تتدخل في تفاصيل حياتهم، فأنت حينها، كمن يسعى لنزع المسامير من نعش جدهم الأول.
قريبا جدا، ستَقْبل ما أقول، ستُقْبل على الناس معتذرا عن حماسك المتقد؛ سيحترمونك، ثم يقصدونك لحاجياتهم كلما تعلق الأمر بقراءة ورقة أو ملء استمارة أو كتابة طلب. سوف تلبي ذلك مبديا ابتسامة عريضة تستر بها امتعاضك، ما عليك إلا أن تسايرهم، أنْهِ عامك الأول، ثم إذا واتتك الفرصة، انتقل مقتفيا حياتك المرجوة في مكان آخر.
سوف تعجبك فتيات كثيرات، فحذار أن تسحلك حبال الجمال المتدلية من إحداهن، لأنك ستصير جزءا من هذا الموت، ستأوي إلى الجدار المهدد بالسقوط، ستضيف روائحك إلى الجو المنهَك، وستخمد رغباتك وآمالك وأحلامك، وسيتلاشى إيمانك بالحياة الطويلة التي تسعى تجريب كل ملذاتها.
عندما ستغرب شمس هذا اليوم، يومك الأول هنا، ستختلي بشعلة شمعتك المترنحة في رقصتها المتوازنة مع الظلال، سيتجمد الزمن للحظة تمد فيها عنقك كي تقدّ قميص الليل القاتم؛ فلا تلفي سوى سيد الوهم ماكثا، مستعدا ليمرق إلى ذهنك بعد افتتاحياته الهادئة التي تجر خلفها جحافل السؤال والذكرى والحلم؛ ويل لك إن أنت رضختَ له وجالستَه. ماعليك إلا أن تنام، وإلا ستخبو شعلتك الداخلية؛ فتمتزج روحك بمخلفات الموت المتربصة بالأرواح كما العفن بالفاكهة. ستقول: "لو أن لي رفيقة تبدد وحدتي"، لكني أذكرك، لا تفكر في الفتيات هنا، لا تفكر في الأنثى.
قد تستيقظ صباحا وتخرج باحثا عن فطورك، فتلمح على الوجوه ابتسامات تتوهج من جوفها؛ فتخمن أنني كنت أهذي وألقي عليك الأكاذيب، هذا من حقك طبعا، آمن بما سترى، آمن به قبل أن تمتزج بجنون الحياة، علِّم الأطفال الأمل وافتح عيونهم على دنياك، اخطب لنفسك فتاة، اتكئ على الجدار المهدد بالسقوط، لكن… إياك أن تأتيني يوما تستنصحني عن أساليب النجاة، لو كانت لنجوت أنا، لا نجاة، لا نجاة، بل استسلام كامل بمحض إرادتك.
حسنا، هانحن وصلنا إلى المنزل الذي أخبرتك عنه. ستفكر في لخبطة الحديث التي ألقيتها على مسامعك، أو لعلك ستتجاهلها، لابأس بذلك، تفضل، تفضل كي ترى المنزل.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا