في قصة "بياض"، ينحت الكاتب المغربي أحمد شرقي سردًا ساخرًا بمبضع دقيق، يحفر في جسد المشهد الثقافي التربوي، ليفضح بطريقة باردة، صامتة، وقاسية. إنها قصة قصيرة الطول، لكنها عميقة فيما تُخفيه من نقد للزيف الذي يغلّف الاحتفاء الثقافي في المؤسسات، وسخرية لاذعة من زمن يقدّس السرعة، حتى وهو يدّعي الانشغال بالأدب.
البياض كبنية رمزية وسردية
يبدأ العنوان ـ "بياض" ـ ببساطة مُضلّلة. لكنه بياضٌ متعدّد المعاني: بياض الورقة التي لم تُكتب، بياض الصوت المنقطع، بياض الوعي في حضرة ضجيج خاوٍ. الكاتب هنا يوظف العنوان كحقل دلالي مفتوح، يُضيء تدريجيًا على عبثية المشهد النهائي، حيث ينطفئ "الكاتب الضيف" في لحظة صعوده، كأنّه جهاز استُهلك شحنه في طريق الوصول.
البياض لا يحيل إلى الهدوء، بل إلى الفراغ الداخلي الذي يملأ الطقوس الثقافية الشكلية. إنه اللاشيء المرمّم بخطابات منتفخة، و"خطبٍ رنانة" تبدأ بجمل مثل "لن أطيل عليكم" وتستغرق خمس عشرة دقيقة في الامتنان والتمجيد.
السخرية في قصة "بياض" لأحمد شرقي ليست تهريجية أو تهكمًا فَجًّا؛ إنها سخرية ذكية، مُضمَرة، ومُركّبة، تتغذى من التوتر بين ظاهر الأشياء وجوهرها، وتعمل بصمت على تفكيك الزيف الذي يغلّف المشهد الثقافي ـ التربوي، وتحديدًا في طريقة "صناعة النجومية" الأدبية داخل فضاء مدرسي يلهث وراء الأسماء والاحتفالات الشكلية.
إنّ ما يجعل هذه السخرية مؤثرة، هو أنها لا تعتمد على الإضحاك أو التهكّم المباشر، بل على الفجوة الكامنة بين الخطاب المنمّق والممارسة الفارغة. الأستاذ الذي يتحوّل فجأة من عبوس كسول إلى منظم متحمّس، والكاتب الذي يبدأ كلامه بتلعثم ويختمه بانطفاء آلي، والراوي الطالب الذي لا يملك سوى تأمل هذا العبث من هامش الحدث — كل هؤلاء يُسهمون في رسم مشهد ساخر لا يضحك القارئ بقدر ما يقلقه.
وتتجلّى المفارقة الساخرة في أن الرواية التي يُطلب من الطالب قراءتها اسمها "العَجَلة"، في حين أن جوهر السرد ـ والراوي نفسه ـ يُمجّد البطء، ويقاوم الخفّة المتفشية. فالسخرية هنا تتعدى الموقف إلى الفلسفة؛ إنها رفض عميق للسرعة بوصفها قيمة زائفة تُدمّر جوهر الفعل الثقافي.
هنا، دون أن يصرّح، يرد أحمد شرقي بطريقته الخاصة على سؤال كونديرا الحاد: "لماذا اختفت متعة البطء؟"، لا بإجابة مباشرة، بل برسم مسرح ساخر لزمن يطرد البطء، ثم يفشل في قول شيء حقيقي وسط الركض، فينتهي إلى بياض.
وفي هذا السياق، يصبح مشهد انطفاء الكاتب ـ وهو يقف في ذروة اللحظة الاحتفالية ـ ذروة سخرية رمزية، تشي بانتهاء دور "النجم الورقي"، وتكشف ما وراء الأضواء: الفراغ، العطب، والبياض.
موت الكاتب... على الخشبة!
ذروة القصة تحدث لحظة صعود الكاتب إلى المنصة، حيث تتلعثم كلماته، ثم ينقطع صوته كليًا، ويظهر ضوء أحمر في جبينه، وكأنه روبوت يُعلن انتهاء بطاريته. المشهد هنا يتجاوز السخرية السردية إلى سخرية رمزية عالية: الكاتب ـ كنموذج للثقافة ـ ينطفئ لحظة تسليط الضوء عليه، لا لأنه فارغ بالضرورة، بل لأن طريقة الاحتفاء به أفرغته من ذاته.
ثقافة "الإسراع" والتعلّق بالسطح
القصة لا تنتقد شخصيات بعينها، بقدر ما تنتقد منظومة فكرية قائمة على التسريع، التسليع، والتمجيد اللحظي. من منصات التواصل الاجتماعي، إلى خطابات الأساتذة، إلى عنوان الرواية ذاتها ("العَجلة")، كل شيء يدفع نحو نفي البطء كقيمة جمالية. لكن القصة، بنَفَسها المتأني، تُمثّل مقاومة داخلية لهذا التسارع.
الراوي يُصرّ على قراءة الرواية ببطء، أو بالأحرى، يفشل في قراءتها بالسرعة المطلوبة. هذا الفشل هو الانتصار الحقيقي للقصة: انتصار البطء على الضغط، التأمل على الانفعال، العمق على السطح.
لغة مشذبة، تهكم رصين
أسلوب أحمد شرقي في "بياض" يوازن ببراعة بين البساطة التعبيرية والعمق الدلالي. لا يسرف في الزينة البلاغية، لكنه يستخدم النبرة التهكمية بسلاسة، تُشبه نَفَس الروايات الأوروبية الساخرة الحديثة (مثل أعمال كونديرا الذي تُفتتح به القصة).
يظهر ذلك في تعابير مثل:
"أدخَلَ مؤسّستَنا الثانوية الهادئة في فوضى مزعجة، ناتجة عن صراع مستفِّز مع الزمن." أو "نشاط تاريخي.. لقاء استثنائي.. يوم مشهود.."
كلها تعبيرات تتردّد في الخطاب الرسمي، لكنها هنا تُستَخدَم بوعي ساخر، يُحوّلها إلى مرآة تشوّهية لكيفية تَسلُّل الزيف عبر اللغة.
خاتمة: دعوا للبطء متّسعًا
"بياض" ليست قصة عن حدث، بل عن زمن. عن لحظة داخل المؤسسة التربوية تمثل كل ما يجري خارجها: احتفاء بالشكل، تفريغ للمضمون، واحتضار للثقافة في اللحظة التي يُفترض أن تتألق فيها.
في زمن تُمجّد فيه المنصات الرقمية "الخفة" و"التفاعل السريع"، تأتي هذه القصة كصفعة هادئة، تحتفل بالبُطء لا باعتباره تأخّرًا، بل شكلًا من أشكال المقاومة الجمالية.
ربما لم يجب أحمد شرقي عن سؤال ميلان كونديرا مباشرة، لكنه قدّم في "بياض" محاكاة نقدية/إبداعية له: ففي عالم يُمجّد العَجَلة، يبدو البطء اليوم فضيلة منقرضة، لا يُحسنها إلا من يختار أن يرى الحقيقة وسط هذا البياض.
مجلة فن السرد | قراءات ودراسات
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا