منحنية والسكاكين تشقّ معدتي، أتقيّأ في المرحاض.
اختلط الغذاء الذي كنت أتناوله صحبة زوجي وابنتيّ مع برازهم جميعا وربما - هكذا خيّل إليّ- مع براز كل الضيوف الذين استقبلناهم بمحبة في هذا البيت. ليتني كنت بول امرأة متشردة أو... ليتني كنت براز كلب شارع منبوذ...
ليتني كنت قيء رجل ابتلع كل زجاجات الجعة الموجودة في كل حانات نهج مرسيليا في ليلة واحدة، ثم تهاوى على الرصيف ليتقيأ العالم دفعة واحدة.
حين انتهيت من التّقيّء، ارتميت على الأرض بينما كان زوجي يطرق الباب لأفتح له حتى يتمكن من مساعدتي.
ظلّ يطرق الباب إلى أن استسلم معلنا أنه جالس أمامه في حال أردت المساعدة. كنت ألملم نفسي كمن خرج لتوّه من عمليّة جراحيّة معقّدة على الجمجمة.
حين خرجت من "التواليت"، رشّني بالعطر ثم حملني إلى غرفتي وساعدني على تغيير ثيابي بحنان ذابح ثمّ أسندني إلى صدره وطلب مني أن أنام قليلا.
طلبت منه أن يغادر الغرفة ويتفقّد ابنتينا بعد نوبة الهلع التي أصابتهما خوفا عليّ، وغرقت في دوّامة الهواجس...
ها قد حدث لي ما لم أحسب له حسابا...
انتهى كل شيء؛ زواجي، أمومتي، وظيفتي، مكانتي الإجتماعيّة...
استجمعت قواي ثمّ فتحت هاتفي وكتبت في "ميسنجر":
-أرجوك لا تفعلها، لا تنشر شيئا على "الأنترنيت" أرجوك...
أتوسّل إليك.
امنحني بعض الوقت وسأؤمّن لك المبلغ الّذي طلبته... أجابني بوضع إصبع افتراضيّ كبير ثمّ كتب تحته:
-بدأ العدّ التّنازلي، لديك مهلة أخيرة حتّى الغد.
وانطفأت "لمبته" الخضراء.
ليته ينطفئ أيضا؟
من تراه هذا المتخفّي وراء اسم "صاحب الظّلّ الطّويل"؟
هذا الذي يجمعني به أكثر من مائة صديق فايسبوكي...
هل يمكن أن يكون أحد منافسيّ على المنصب المرشّحة له في العمل...هل هو أحد أقاربي ممّن يغارون من سعادة أسرتنا وتفاهمها؟ أم هو شبح مؤذ من ماض لا أتذكّره؟
ما الّذي يريده هذا الشيطان منّي؟ هل ستصمد عائلتي أمام هجمة مجتمع يتصيّد الفضائح دون غربلة أو بحث عن الحقيقة؟
قبل رسالته كان الفايسبوك متنفّسي...
أمّا بعد تلك الرسالة الملعونة فقد تحوّل إلى ديناصور عملاق يطاردني بينما يتشارك الفايسبوكيّون مقاطع فيديو للمطاردة على صفحاتهم الزرقاء، من أجل حصد "اللّايكات" والتّعليقات.
-ما أقبح العالم...
توجهت إلى البنك وطلبت لقاء رئيس الفرع، أخبرته أنني أريد مبلغ عشرين ألف دينار بشكل عاجل ولقضيّة حياة أو موت.
سمعني رئيس الفرع بهدوء مستفز وطلب مني أن أتمالك نفسي وأن أهدّئ من روعي، ثمّ أخبرني أن الأمر في غاية الصعوبة، إن لم نقل مستحيلا، ذلك لأنني بصدد سداد قرض متعلق بشراء مسكن ما زلت أدفع أقساطه الأولى.
انهرت بالبكاء أمامه. كدت أبوس قدميه، لكنه قدّم لي كأس ماء. وبهدوء من اختبر مثل هذه المواقف قال لي:
- سيّدة إيمان، أنت سيّدة العارفين بالإجراءات الإدارية المعقّدة في خضمّ الأزمة المالية التي تمرّ بها البلاد.
غادرتُ البنك بخيبة أمل كبيرة...توجهت إلى منزل أهلي، أردت أن أرتمي في حضن أمّي وأن أطلب منها المساعدة.
حين وصلت أمام الباب طرقته وقبل أن يُفتح هربت.
عدت إلى منزلي حيث وجدت زوجي في الانتظار.
-إيمان أين كنت؟
لم أجبه ثمّ سقطت مغمى عليّ.
حين أفقت وجدت أمّي إلى جانبي تمسك يدي بدفء، شعرت بأن يدي تقلّصت بين يدي أمّي حتّى صارت ككفّ رضيع وتمنّيت لو أستطيع أن أعود إلى رحمها.
-إيمان، ابنتي الغالية، أخبريني ما الذي أصابك؟ إن لم تخبري أمك فمن ستخبرين؟
-أمّي لقد وصــ... لتني رسالة على الفايسبوك.... إنها من.... (قلت ذلك وأنا أبكي بحرقة).
أردت أن أقول لأمّي كل شيء لكن صدى كلمات أخرى خرج من فمي.
-لقد وصلتني رسالة من زميلتي في العمل شخّصوا حالتها بمرض السّرطان وكانت منهارة، فتأثّرت لأجلها ثمّ ذهبت لمواساتها.
ضمّتني متمتمة بحكمة:
- ابكي يا إيمان، ابكي يا ابنتي لعل البكاء يريحك.
بكيت في حضن أمي إلى أن خارت قواي ونمت.
طمأنت أمي زوجي بقصّة الزميلة التي اكتشفت إصابتها بالسرطان في مرحلة متقدمة، وتفنَّنت في تزيين القصة بتفاصيل حول طيبة قلب ابنتها وحساسيتها المفرطة، ملمّحة إلى احتمال حملها مشيرة إلى مسألة القيء ومحاولة لملمة الموضوع، ووضع حدّ لحيرة الزّوج والشكوك التي راودته.
حين استيقظت وجدت زوجي صاحيا حذوي:
-إيمان ماذا يحدث لك؟
-لا شيء يا حبيبي ... رأسي... لا شيء
-إذن انظري إلى عينيّ مباشرة وأخبريني أنك بخير.
-سأذهب إلى الحمّام.
فتحت هاتفي، أعدت قراءة الرسالة الأخيرة، وكتبت له:
-"أرجوك لم أتمكن من الحصول على المبلغ المطلوب...
امنحني وقتا إضافيّا."
ابن الكلب رفض أن يرحمني...
أيّ شرّ اقترفته ووجب عليّ سداده الآن؟ كانت حياتي بسيطة كقصّة للأطفال. قلبي طيّب مثل رغيف خبز. مازال يبكي إلى الآن على كلّ مشهد حزين في مسلسل كرتون للأطفال.
قلبي الساذج الذي جعلني أقبل "صاحب الظّلّ الطّويل" ضمن قائمة أصدقائي، فقط، لأنّ اسمه ذكّرني بطفولتي حين كنت أركض بضفيرتين طويلتين مسرعة إلى المنزل حتّى لا أفوّت شارة البداية لمسلسل الأطفال "صاحب الظلّ الطويل".
كنتُ أغنّي بشعور عميق:
يا صاحب الظلّ الطّويل
أجبني من تكون؟
أشعلت في دربي الشّمع
عن خدّي مسحت الدّموع
أجبني من أنت؟
من تكون؟
وها هو الآن يقتحم عالمي شاهرا رسائله في وجهي مؤكّدا أنّ أصل العالم شرّ، أمّا الخير فهو فكرة صنعها أصحاب الخيال حتّى يطمئنوا الأطفال ويفتحوا شهيّتهم للأكل، مؤجّجين في داخلهم رغبة قويّة في النّموّ بسرعة حتّى يصبحوا جزءا من عالم الكبار: أصل العالم .
ما أقبح العالم..
عقارب السّاعة تسمّم جلدي ودمي ببطء.
أيقظت زوجي من نومه قائلة:
-يجب أن نتحدّث حالا.
بينما كان يفرك عينيه متثائبا واصلت حديثي:
-هنالك مصيبة وقعت كقنبلة ذرّيّة على رأسي. عليك أن تتمالك أعصابك وقبل ذلك عليك أن تعدني بأنّك لن تتخلّى عنّي مهما حدث.
نظر إليّ نظرة تحثّ على مواصلة الكلام.
-عِدني أنّك لن تتخلّى عنّي أوّلا
-أعدك
- هنالك من يبتزني منذ الصّباح على الفايسبوك، إن لم أوفّر له مبلغا بقيمة عشرين ألف دينار مساء الغد، سينشر لي مقطع فيديو على "الأنترنت" أظهر فيه عارية تماما مركّبا على فيديو إباحي مدّعيا أنّه صوّره لي.
صمت طويلا دون أن يردّ الفعل محاولاً أن يستوعب المسألة.
فجأة، وكَسهم ناريّ مصوّب تجاهي، انتفض من السرير متسائلا بغضب مستعر:
-فيديو...أي فيديو؟ أرني الفيديو...
-لا يمكنني ذلك يا خليل، إنّه مخجل جدّا بل هو مشين.
افتكّ بعنف الهاتف من يدي ثمّ فتح الفيديو غير مصدّق ما يرى.
كان وجهه يحمرّ إلى حدّ أنّه يمكن للعين المجرّدة أن تعدّ عدد عروقه.
-تعرف أن الفيديو مفبرك بشكل احترافي...
تعرف أن هذا الجسد الآثم ليس لي
يمكنك التثبّت في الفيديو قليلا لتحسم الأمر...
انظر لا يظهر "تاتو" الفيل اللاعب بالكرة الأرضية على معصمي.
- هل هذا كل ما يشغل بالك الآن؟ "تاتو" الفيل اللاعب بالكرة الأرضيّة؟
حاول الاتصال بصاحب الظل الطويل مرارا دون جدوى...
أرسل له الشتائم، هدّده بأنه سيتّصل بالشّرطة، لكنّه لم يجب، كان يكتفي فقط بقراءة الرّسائل دون أن يكتب ردّا واحدا.
في السّاعة الخامسة صباحا، أرسل لنا صورة لساعة تشير إلى الساعة الخامسة مساء، مع مقطع الفيديو اللّعين وتسجيل صوتيّ لضحكة شرّيرة ساخرة.
الساعة السابعة والنّصف صباحا...
كنّا أمام مركز الشّرطة لنقدّم دعوى ضدّ صاحب الظّلّ الطّويل.
السّاعة التاسعة صباحا...
وصلتنا رسالة أخرى تذكّرنا بالموعد مع تسجيل صوتيّ لضحكة أكثر شرّا وأكثر شماتة من السّابقة.
السّاعة الخامسة إلاّ ربع...
لم تستطع الشّرطة أن تفعل شيئا ولم نستطع تأمين المبلغ المطلوب.
على الساعة الخامسة إلا خمس دقائق...
كنت أصلّي إلى الله طالبة السّتر.
على الساعة الخامسة مساء...
انتشر الفيديو على "الأنترنت" كانتشار النار في الهشيم وتلقّيت رسالة خاصّة على "ميسنجر":
" إن لم أنفّذ وعدي خسرت ظلّي ...ههه"
السّاعة الخامسة وعشر دقائق.
شاهد أبناء الوطن كلّه الفيديو وتشاركوه كأنّهم بتلك المشاركة يعلون راية الوطن في يوم الاستقلال العظيم.
من الغد، حذف اليوتيوب الفيديو وحذف الفايسبوك صفحة صاحب الظّلّ الطّويل. حذفني زوجي من حياته وحياة بناتنا. حذفني والداي من شهادة الميلاد. حذفني زملائي من قائمة الزّمالة والاحترام. أوقفتني الإدارة عن العمل إلى أن ينتهي التّحقيق.
بعد أسبوع، من الخسارات المتتالية، وعلى السّاعة الخامسة مساء، حذفتُ حياتي من أصل العالم تاركة رسالة صغيرة: "ما أقبح العالم".
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا