الجـرافـات | بلال الخوخي

الكاتب: بلال.ختاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
مجلة فن السرد


لقد مرت من هنا، واحدة تلو الأخرى، كلص يتسلل بين الدروب ليلا. لقد مرت على كل شيء.


أين كنت عندما حدث كل هذا؟ كأنما هدّتني غيبوبة قديمة، لم أفق منها إلا أمام مسجد العيون، ببابه التي ولجتُها مرارا وتكرارا؛ أتوضأ من الصهريج الرابض في منتهاه، وأنحشر ضمن الأكتاف المتراصة خلف الإمام في خشوع ما ظننته سيصير محض ذكرى هلامية تستحضرها تجاويف رأسي أمام الباب.

أهي باب زمنية معاتِبة؟ لها ذاكرة مغناطيسية تجذب مريديها القدماء؟ تمزق كفن النسيان عن جثامين تنبعث صورا مدفونة في غيابات بئر عميقة؟

لكن، هذه الصور الخارجة من أجداثها، لا تظهر البناء كما أراه الآن؛ فالجدار المتجدد بياضه والباب المنتعشة بِطلاء أخضر لامع، يبدو عليهما الإرهاق رغم محاولات مداراته، مثلهما مثل صاحب محل البن المجاور؛ فوجهه تزينه/تشوهه التجاعيد، بينما يداه تمتدان نحو الحبوب، تزنانها ثم تطحنانها باستخدام الآلة الرابضة فوق المنضدة على يمينه، في عمليةٍ اعتراها بعض البطء بعد أن ظلت وفية لما كانت عليه قبل عشرين سنة… يااه ما أخف هذه الكلمة! وما أثقل وقعها! "عشرين سنة".


اختراق باب النوادر مرورا بالعيون نحو السوق الفوقي، ثم تعريجا على الخرازين فالغرسة الكبيرة، وهبوطا نحو باب العقلة ثم صعودا إلى الملاح؛ كانت واحدة من جولاتي المفضلة بمدينة تطوان، جولة ترعرعت معها وبها وفيها سنينا طويلة، أدوس على القطع الحجرية المرصوصة متمعنا فيما ستجود به الجنبات، وأحرص على أن لا تفلت فرشة من البحث الدقيق بين مكوناتها. ما أول شيء اشتريته من هذه الأرض المباركة؟ لعله كرة، كرة بلاستيكية صغيرة اشتريناها بيننا أنا وخمسة أصدقاء، وجعلناها رفيقتنا طوال الموسم الدراسي؛ نتقاذفها بيننا في فترة الاستراحة أو ننظم مبارياتٍ عندما تتاح لنا فترات أطول. ثمّ، ماذا اشتريت بعدها؟ أشياء كثيرة، كثيرة جدا، بل كنوز كثيرة، اختلفت قيمتها مع نموي بين هذه الأزقة والدروب: آلة حاسبة، لعبة شطرنج، أوراق وأقلام، ملابس، ألعاب غريبة… لازالت هذه الأرض تعج بالكنوز، وآخرها ما اقتنيت آنفا؛ حيث لمحت عنوان "مدام بوفاري" دخيلا على فرشة تحوي أسلاكا وكؤوسا وأشياء أخرى.

هذا المكان، بناسه وجدرانه، يبدو كما كان، متشبثا بعنفوانه الممتد مع الزمن، بيد أنني، أحس أنها مرت من هنا، أجزم أنها مرت من هنا؛ فقطيعتي القديمة الإلزامية معه، هي أداة قياسي الموثوقة، حيث المشاهد الساكنة في الذاكرة تعرضت لانكسارات فجائية مع عودتي، أظن أن كل شيء هنا قد شاخ، ولو أنني ما كنت رحلت عن دروبه، ماكنت لألاحظ شيخوختها.

واصلت جولتي على المنهاج القديم، وتجاهلت الشرخ المُحدَث في روحي، اقترضتُ عيني سائح ودهشتَه عساني أنجو من ألم النظر إلى الأنقاض الخفية المخلَّفة من مرورها، لكن، إلى متى؟ فقد استوقفتني مرآة معروضة عند محل ديكورات قديمة؛ سَحَلَت روحي عنوة فوق جمار الوعي، كأنما تقول لي: لا مجال للهرب، هذا واقعك، هذا واقع الوجود كله، إن الجرافات التي أحسستَ بمرورها على الجدران، وعلى الوجوه، قد مرت عليك أيضا، رغم القطيعة المزعومة.

كانت وقفتي لحظةَ استيقاظ استوى معها سؤال: من أنت أيها الواقف في الجهة الأخرى من المرآة؟ انتبهتُ إلى صاحب المحل يرمقني بنظرات مشككة، مترددا بين إن كنتُ زبونا محتملا أو واحدا من العابرين المعتادين على مرآته متفحصين هندامهم. أصابني الحرج من وضعي ورفعت يدي معتذرا منه، ثم انصرفت رفقة الجرافات.

مجلة فن السرد

محاكاة

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث