شعرية القول الشعري بين المؤتلف والمختلف في ديوان ( نجمة بعد حين) لحميد سعيد | عصام عبد السلام الشرتح

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد

مجلة فن السرد


إنه لمن البديهي القول: إن الكلام الشعري هو المنطوق اللغوي المميز، من حيث السمات، والإمكانيات، والخصائص، والبنى اللغوية الدالة التي تعتمد على الاقتصاد اللغوي، والبلاغة، والإيجاز، وهذا ما يجعل الكلام الشعري اختلافياً في بنيته، وشكله، وعلاقاته اللغوية التي تنبني على تشكيلات، وإيقاعات لغوية متوازنة ضمن سلسلة علائقية فنية جديدة؛ ليست كما هي عليها لغة الحديث اليومي، أو اللغة الدارجة، " فاللغة بالنسبة للأدب هي الأداة، والهدف في الوقت ذاته، ودور النص هو إعادة ترتيب المواد اللغوية، وجعل بعضها بسبب من بعض، وخلق علاقات جديدة بينها"(1).

وقيمة النص إبداعياً أو شعرياً تتحدد من خلال اختلافه في التشكيل، أو التركيب اللغوي الشعري الشائق الذي يختلف عما سواه، إذاً، الكفاءة الشعرية تتبع الكفاءة اللغوية، ومهارة الشاعر في تشكيل اللغة، و" بهذه الطريقة يعمل النص على كشف مزايا التعبير في هذه اللغة، وهذا النظم الجديد للوحدات اللغوية؛ ينتج معاني جديدة لم تطرق من قبل، وهو ما يفيد أن النص لا ينشئ المعاني فحسب، ولكنه يولد أيضاً الكلمات."(2).

إذ يضفي عليها دلالات جديدة، وعلائق لغوية مثيرة هي التي تجعل النص الشعري يختلف عما سواه في القيم، والمؤثرات، والبنى اللغوية، والطاقة الشعرية الخلاقة التي تميزه فنياً او جمالياً عن غيره من النصوص الشعرية. وبمعنى أدق: "إن تركيب العلامات اللغوية بطريقة جديدة يعد وسيلة مثلى لاستثمار الإمكانات المختلفة لإنتاج النصوص"(3).

وتأسيساً على هذا يمكن القول:" إن النص الشعري ليس مجرد انزياح عن اللغة العامة، بل انزياح خاص عن الواقع الذي يمثل ما أسميناه درجة الصفر الإبداعي لكل من النص والعالم"(4). وهذا يعني أن الانزياح الفني الجمالي هو ما يميز لغة الشعر، والانزياح لا يعني الابتعاد عن لغة الواقع، بقصد إثارة اللذة والاختلاف في زعزعة الرؤيا من خلال القلقلة، والاسناد اللغوي الصادم ، وإنما يعني الزوغان والانحراف في الرؤى، والدلالات عما هو متعارف عليه في الواقع؛ فالقيمة جمالياً ليس للواقع بوصفه واقعاً ؛وإنما لخلق واقع شعري، أو شاعري نشعر حياله بلغة جديدة، وفكر جمالي غير معتاد أو مرتاد سابقاً.

ولا قد لا نبالغ في قولنا:

الانزياح هو أول إمكانات اللغة الشعرية في تحقيق تمايزها الفني، وحراكها الإبداعي المميز ، ونكتها الفنية الخاصة. ولهذا حتى إيقاع الانزياح، واختلاف قيمه، ومؤثراته الفنية يختلف من شاعر إلى شاعر آخر، ومن قصيدة إلى قصيدة، ومن سياق شعري إلى آخر، تبعاً للحساسية الجمالية عند الشاعر، ومهارته الإبداعية في التشكيل، والحنكة الجمالية في توليف الكلمات والجمل توليفاً شاعرياً مثيراً. ولهذا فن الشعر الجمالي يسمى فناص لأن لكل شاعر لمساته الفنية التي تجعله ينماز إبداعياً في تشكيلاته اللغوية عن غيره من الشعراء.

ومن يطلع على قصائد( نجمة بعد حين) لحميد سعيد يلحظ اشتغالها الفني على التراث العراقي، من رموز، وشخصيات، وعادات، وتقاليد مختزنة في الفكر الشعبي التراثي العراقي، وليس ذلك فحسب، وإنما تشتغل على متعلقات هذا التراث، من غناء، وموسيقى، وحوادث، ولحظات، ومشاهد يعرفها القارئ العراقي، ويتفاعل مع مدلولها ضمن السياق النصي، فقد استطاع حميد سعيد ان ينتج النصوص الاختلافية دون أن ينفصل في حداثته عن التراث، بل ينطلق من التراث في تجذير حداثته الشعرية؛ لآن الحداثة بمنظوره ليست بالانفصال عن التراث والانقطاع عنه تماماً، وإنما بتفعيله وتوظيفه ليكون نقطة انطلاقته الحداثوية. وهذا الأسلوب جعله ترتد إلى التراث بنهم وكثافة مستفيداً من إمكاناته في تحفيز لغته الشعرية والنهل من معينها بشكل جمالي استشفافي جذاب أو لنقل شائق شعرياً وجمالياً.

وتأسيساً على منهجية البحث النقدي في كشف المفاصل الارتكازية في توظيفه الفني للتراث يمكن ان نرتكز على الإجراءات الكشفية التالية:

1) شعرية المشهد التراثي، عين التراث الرائي:

لاشك في أن تفعيل المشاهد التراثية، أو الأحداث، والشخصيات التاريخية من المغريات المؤثرة في حركة الحداثة الشعرية اليوم في الكثير من توجهاتها الرؤيوية المعاصرة، لأن القيم التأصيلية التي يبثها الموروث التراثي لا غنى عنها في تحريك الرؤيا الشعرية المعاصرة، وتكثيف الرؤى الشعرية، ولهذا تختلف الطرائق والأساليب التعبيرية في توظيف هذا التراث لخدمة الرؤيا الشعرية، تبعاً لفاعلية الرؤيا الشعرية من جهة والآلية التعبيرية التي يثيرها الشاعر في نصه الشعري من مبتكرات وقيم فنية من جهة ثانية، فقد يكون التوظيف التراثي مجرد إشارات برقية مختطفة لا قيمة لها على المستوى الإبداعي، وقد تكون لقطات مضيئة في النص الشعري تسهم في استرجاع أزمنة غابرة، واستقطاب اللحظات الماضوية المؤثرة التي تركت اثرها البالغ في مخيلة الكاتب أو الشاعر، وهذا يعني أن توظيف الشاعر للتراث يتبع قدرته الفنية على تفعيل هذا التراث، و تفعيل دوره في إحياء نصه الشعري من جديد؛ ليبرز في المواجهة. وكم من المؤثرات الجمالية التي أثارتها الكثير من النصوص الشعرية في امتصاصها للاثر التراثي في إغناء الشعرية وتجديد ينابيع إثارتها.

ولو بحثنا في فاعلية المشاهد الشعرية التراثية واللقطات المعبرة عنها فنياً في قصائد( نجمة بعد حين) لأدركنا أن ارتداد الشاعر حميد سعيد إلى التراث ليس ارتداداً عشوائيا او غوغائياً لا قيمة له، إنه ارتداد فني هادف يرمي من ورائه تحقيق هدفين مهمين، متلازمين، الأول :تكثيف الرؤية الشعرية، وتعميق فاعلية المشهد، أو الصورة، أو الحدث التراثي في ذاكرة المتلقي، ليتفاعل مع نصوصه الشعرية وخلفياتها الثقافية. والهدف الثاني : التقاط الأزمنة الماضوية بكل صخبها الوجودي وتوترها العميق ليعيش حرارة اللحظة الماضية، والمشاعر المصاحبة لها في أزمنة غابرة؛ تركت أثرها وصداها في روحه، ولا يمكن استرجاعها وإحيائها من جديد إلا بتوظيف التراث الأدبي والشعبي والعامي في حياته الماضوية، وتوظيفها لتحكي الواقع الراهن بكل منعكساته الشعورية، وطاقة التخييل الملتصقة به، وهذه التقنية الاسترجاعية من محفزات الرؤيا الحداثوية في شعرية اليوم؛ هذه الشعرية التي تحتفي بكل الخلفيات والمؤشرات والمضمرات النصية التي يتضمنها النص، ليحقق ممانعته الجمالية او الفنية أو الرؤيوية.

والسؤال الذي نطرحه على خارطة البحث النقدي: كيف وظف الشاعر حميد سعيد التراث؟ هل وظفه جمالياً لتفعيل الرؤيا الشعرية، وإنتاج الدلالات البؤرية العميقة أم وظفه بشكل سطحي مباشر لا رؤية ولا قيمة ولا فاعلية تذكر على المستوى الفني او الرؤيوي المثير؟

إن فاعلية توظيف التراث في قصائد(نجمة بعد حين) جاءت ذات قيمة فنية مركزة؛ لإثراء المخيلة الشعرية وإعادة الانتماء إلى التراث كقيمة شعرية، وهوية وجودية يؤكد من خلالها انتماءه الشعوري، والوجودي والذاتي للعراق، فالتراث إذا بنية تكوينية من مثيرات قصائدها وبناها الدلالية المركزة، فهو يوظف التراث لقيمة او غاية فنية يرومها من هذا التوظيف الفني أو ذاك، لإثارة الحراك الرؤيوي المنبعث من منعكسات الشخصيات التراثية، وبؤرة تفعيلها النصي المثير داخل النص، كما في قوله:

ماذا خَبَأْتِ لنا؟

هلْ يَعودُ إلى ليلِكِ..الموصلِيُّ

بعدَ غِيابٍ طويل ؟

ها أنذا أَسمَعُ الحَمامَ العِراقيَّ..

يُنشِدُ مما تعلَّمَ منهُ..

أكانَ لأوتارهِ إرث زرياب والموصلِيَين

أعرف أن الزمانَ اصطفاهُ وأودَعهُ ما سيبقى

. . . . . .

. . . . . ."0(5).

هنا، يطالعنا الشاعر باستحضار الأماكن التراثية مع الأثر التاريخي او الوجودي الذي تركته شخصياتها فيما مضى ليحقق تفعيلها الأمثل، لترصد ماهو واقعي، أو آني، او معاصر، إذ يسترجع ذكريات الغناء الموصلي، والحمام العراقي القديم، ويطرب لإيقاع الذكريات ولحنها الجميل الذي يسترجعه لماضي بغداد واغاني زرياب وموسيقاه في العصر القديم؛ وهذا ما دل عليه بقوله:( أعرف أن الزمانَ اصطفاهُ وأودَعهُ ما سيبقى).

وهنا، يتابع الشاعر على هذه الوتيرة في توظيفه للحدث والمشهد الشعري التراثي، في رصد النبض الداخلي العاطفي الاغترابي الذي تتوق نفسه إليه، ليكون صدى ذاته المتعطشة لما مضى من متعلقات مكانية، ومشاهد غرامية حفرت إيقاعها على خارطة الذاكرة:

يخشى على الأرضِ ومَنْ فيها.."

على ماءِ تَجلّى في مَفاتنِ البلّورْ

يخشى على القولِ..

على الكتابةْ

يخشى على ما تركَ العاشِقُ من أحزانِهِ..

في وترِ الرَبابة

في مُدُنٍ تَقْتَرِفُ الوهمَ.. تبيعُ الماءَ للسقّاء"(6)

هنا، انعش الشاعر ذاكرتنا في تمسكه فيما مضى من مشاهد، وذكريات، ولقطات للماضي العريق، عساها تمحو ما تراكم في المخيلة من أوهام وأحزان، ليعيش لحظة الاستشراف التصوفي الزمكاني، بعشق تلك الأماكن، والترنم بألحان عشقه لها حتى الثمالى:[ يخشى على ما تركَ العاشِقُ من أحزانِهِ../في وترِ الرَبابة]،وهذا الأسلوب الاسترجاعي لما تضمره رؤاه من مؤثرات زمكانية جعلت لفضاء الرؤيا الشعرية في قصائده مدها الدلالي وطاقتها التخييلية العالية؛ لاسيما عندما يترك إشارة او لمحة تاريخية تتعلق بشخصية من الشخصيات التراثية، او شذرة او لقطة مشهدية مما كان، ليحرك إحساس الشجن والحنين إلى ما مضى من ذكريات تبرق في فضاء المخيلة كل حين وحين. وهذا يعني أن التراث في قصائده من متطلبات الكشف عن الكثير من توجهات رؤيته الاغترابية، وتوجهات البنى الدالة التي تحكم سيرورة الكثير من القصائد في حركتها النصية، وتحولاتها الصوفية، وكشف متعلقاتها النفسية فيما مضى وانعكاسها على الواقع الراهن.

 واللافت كذلك في التوظيف الفني للتراث أن الاسترجاع الزمكاني للشخصيات أو الأحداث الماضوية في قصائده يخدم المواقف والأحداث الماضوية التي عايشها في المخيلة، ليحياها في لحظتها المتوهجة في عمق النص، كما في قوله:

يَصيحُ في الصبحِ وفي المساءْ

كمَنْ يُخاطِبُ الحجارَةَ الصمّاءْ

مَنْ يسمَعُ النِداءْ؟

مَنْ يسمَعُ النِداءْ؟

تَهبطُ من عليائها القصيدةْ

غَريبةً ضائعةً وحيدةْ

مَنْسيةً.. في مدن النحاسْ

لا الملكُ الضِلّيلُ يرعاها ولا أبو نواسْ"(7).

هنا، لم يستحضر الشاعر الدور التاريخي للشخصيات بقدر ما استحضر البعد الاغترابي للذات في بحثها عن عالمها الوجودي الحافل بالإشراق، والقصيدة ليست مجرد كلمات، وصور وتراكيب شعرية شائقة، وإنما هي استرجاع لكل ما مضى من جمال، ونشوة، وإشراق في ظل واقع الضياع الذي تعيشه ذاته المغتربة في سجن التيه، والاغتراب النفسي الشعوري:( غريبة ضائعة وحيدة .. منسية في مدن النحاس). وهكذا، تحفل قصائد( نجمة .. بعد حين) بفيض من الإشارات والمشاهد التراثية التي تسترجع ما مضى بعين حداثوية تكشف الكثير من المضمرات الشعورية التي تعيشها الذات الشاعرة في اغترابها الوجودي وواقعها المأزوم.

وصفوة القول: إن اللعبة الفنية الجمالية في هذه القصائد تكمن في اقتناص الحداثة في جذورها الاصيلة وفي ارتكازها على أرضية صلبة لا تهتز ومعين تراثي حي لا ينضب من التنامي والعطاء كل حين وحين، وهذا ما جعل الخلفيات الرؤيوية لقصائده متعددة منها ماهو نفسي، ومنها ماهو فلسفي، ومنها ماهو جدلي، ومنها ماهو صوفي، ومنها ماهو ديني، برباط فني تنتشي فيه الشعرية، وتأتلق فنياً أو جمالياً من خلال براعة التوظيف وعمق المقصد الرؤيوي والدلالي من جراء هذا التوظيف في السياق الشعري المتوهج جمالياً كما أشارت إلى ذلك الكثير من سياقات قصائده في تحولاتها الفنية.

2) الرؤيا بوصفها حدثاً شعرياً ومشهداً تراثياً:

لاشك في ان استحضار التراث، أو امتصاصه فنياً في بنية القصائد الحداثية يحتاج إلى موهبة فنية قادرة على توظيف التراث بحنكة جمالية تجعل العنصر التراثي، أو المقوم التراثي من لبنة النص، وجزءاً لا يتجزأ من شعريته ضمن الموقع النصي الجديد الذي شغله، وهذا يتطلب الخبرة، والوعي، والمهارة اللغوية في ذلك؛ لأن توظيف التراث ليس فقط استحضارا سكونياً في النص، وإنما خلق فني يعيش الطقس الشعوري الجديد الذي استقطب من أجله، وهذا يغني الشعرية، ويجعل النص بنية تفاعلية في المواقف، والاحداث، والتصورات، والتفاعل الفني الجمالي الذي يجعل النصوص متكاملة في تفعيل الازمنة والخروج منها بالزمن الإبداعي المنفتح على آفاق زمنية ممتدة أو رحبة.وهذا يعني أن الزمن الشعري هو زمن إبداعي يحرك المخيلة الشعرية ويجعل الرؤيا سرمدية حاضرة في المخيلة وكأنها تحدث الآن، وهذا مصدر غناها وتفعيلها الجمالي.

ومن يبحث في القيمة الجمالية لتفعيل المشاهد التراثية في ديوان(نجمة بعد حين)يلحظ أن تحولات المشاهد التراثية لا تنفصل عن تحولات المشاهد اليومية التي ينقلها الشاعر من الواقع العراقي، ومن نتاج تراثها الشعبي اليومي، فغنى المخيلة التراثية من عادات، وطقوس، وتقاليد يعرفها العراقي من مثيرات قصائد هذا الديوان، ومن حركتها النصية، بل ومن جوهر الرؤيا الفنية لقصائده على امتدادها من أول قصيدة إلى آخرها. فثمة هندسة فنية محكمة والتفات فني ملحوظ إلى تقنية الامتصاص الجمالي للتراث وأحيائه في الذاكرة من خلال تفعيل التراث في شعره ليوازي في حركته الواقع الراهن الذي يعيشه الشاعر.

وللتنويه إلى ناحية جوهرية مهمة في قصائد هذا الديوان نقول: إن اشتغال قصائد حميد سعيد على الموروث من أدب ، وامثال، وعادات، وتقاليد، وشخصيات تاريخية، واقتناص الأدوار الذي تلعبه هذه الشخصيات من مثيراتها قصائده في الزوغان عن المألوف في توظيف التراث، فهولا يندب الأيام والسنين بحرقة ودموع كغيره من الشعراء الذين عانوا الاغتراب والألم، وإنما يستشف الجماليات التي يثيرها التراث، والمشاهد التراثية بلهفة المبدع الذي يتذوق نبض الجمال فيما كان بإحساس شاعري يرقى به إلى درجة التصوف؛ وهذا يعني أن الأفق الجمالي للتراث أفق روحي ممتد امتداد الرؤى والتطلعات الزمكانية المفتوحة بالإحساس والنبض الواعي الجمالي، فالنص التراثي ليس قولاً شعرياً يتضمن دلالة مرجعية ما، وإنما هو كل متكامل في الإدراك، والتطلعات، والنبض الجمالي حتى ولو أشار بكلمة، أو شذرة إلى أثر ما من الأثر التاريخي، سرعان ما يبعث الرؤى الزمكانية بإحساس المتصوف الذي يعشق الماضي، ويقدس كل ما فيه من روحانية، ويستشف ما فيه من جماليات، كما في قوله:

دعيني في هذي الليلةِ وحدي..

ابتعدي..

ما عدتُ أراكِ كما كنتِ..

يُساوِرني قلقي.. وأشكُّ برؤياي..

أأنتِ ..

لماذا ما عُدتِ تجيئينَ إليَّ بطلعتكِ العباسيَّةْ

ولماذا فرَّطتِ بما أوصاكِ به المنصورُ

أَنْ احتفِظي بالعطر الأندلسيِّ.. وقمصان الشام..

وطلعتكِ المَكيّةْ" (8).

لابد من الإشارة إلى أن المهارة التي يمتاز به حميد سعيد في توظيف التراث، وامتصاص المواقف التاريخية يجعل لفضاء قصائدها ديناميتها ودلالتها المفتوحة، ففي المقتطف الشعري السابق يجمع تراث العراق بالعصر العباسي بالأندلسي، ليشكل ملحمة بانورامية من الأحداث، والرؤى، والتطلعات الماضوية في زمن شعري مفتوح على معطيات التاريخ، والتراث بكل متضمناته الرؤيوية والدلالية، وهنا، بدا بحثه عن العراق بحثاً عن تاريخ حافل بالرؤى، والمنظورات، والمتغيرات الوجودية، ليعيش التراث حضارة روحية وتصوفاً عميقاً بكل ما يمت إلى العراق وتاريخه المشرق من صلة عبر العصور والأزمنة والأحداث والشخصيات وتوظيفها بما يخدم رؤيته الشعرية ومنظوره الدرامي الجدلي للواقع الراهن.

     وما يثير القارئ في قصائد ( نجمة بعد حين) التوظيف البنيوي للتراث، حتى الكلمة لها حضورها المميز في النسق الشعري، وتحمل من الرؤى والدلالات والمرجعيات التاريخية ما يجعل النسق الشعري قمة في الشاعرية، والامتداد، والدلالات المفتوحة زمنياً على ما مضى بعين رؤيوية لاقطة؛ تفعِّل الحدث الماضوي في لحظته الراهنة ،وهذا ما يجعل شعريته علائقية مفتوحة مرتبطة بجذورها وازمنتها الماضوية، مهما ابتعدت أو استطالت، كما في قوله:

لستِ أنتِ..

كنتُ اغتسلت بجمرِ أسئلتي.. فأدركَني الرمادْ

لِمَ جِئتِ.. أو لِمَ جِئتُ ..

في زمنٍ ذوت أشجارُنا فيهِ..

تُضيئينَ الثِمارْ

رأيتُ أحزاني تُرافِقُني إليكِ..

تعودُ منكِ كما .....

أُحبُّكِ .. أستعيدُ صِبا حرائقنا البعيدَةِ ..

ثُمَّ أقول..

ها هي نجمة ٌ أفلتْ

وتظهرُ بعد حينْ"(9)

إن القارئ ـ هناـ يعيش الواقع الشعري المتنامي فنياً، أو الواقع الشعري التصوفي ميراثاً إبداعياً يجعله يلتصق بالمخيلة التراثية للمتصوفة في بحثهم عما مضى في ظل واقع يعيد حرائقه البعيدة، وذكريات محبوبة التي تركت أثرها في روحه، ليلتصق بها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً( هاهي نجمة أفلت وتظهر بعد حين)،وهذا الأسلوب الاستشفافي الترسيمي يجعل الامتصاص الفني للتراث نبضاً شعرياً يطفو على السطح كلما تغورنا فضاءات قصائده الرؤيوية على المستوى النصي.

واللافت أخيراً أن البعد الجمالي الترسيمي في توظيف التراث لا ينبني فقط على الرؤيا الجمالية، والمعاني التي تفيض انساً وتوقاً عاطفياً وجودياً إلى ما مضى، وإنما يلتصق بها كفلسفة وجودية؛ ليعاين الواقع المعيش، ويعري مرتكساته المؤلمة، ولحظاته الموجعة، ليكون التاريخ مصدر إشراق، وخصوبة، وحياة وجمال مقابل بشاعة الواقع، وسوداويته القاتمة، وبراثنه المرعبة، كما في قوله:

لكنني..

ما وجدتُ التي تفتحُ الباب..

لمْ أجِدُ البابَ..

والمدُن التتبغدَدُ أبوابها مغلقةْ

لحظةٌ قَلِقةْ

تتناسى القرون التي سبقتها ..

وتَطوي مَداها على فُسحَةٍ ضَيّقةْ

يتخيَّلها الطارئون بلاداً."(10).

هنا، يكشف الشاعر سوداوية الواقع وقتامته، بين البلاد التي كانت تفتح أبوابها المشرقة لكل الأمجاد والثقافات والحضارات المشرقة، والواقع القاتم الذي تعيشه البلاد في الضنك، والاختناق، والضيق، فثمة فرق بين البلاد التي تنتشي بانتصاراتها وحضاراتها، وتمتشق تاج امتدادها وأبوابها المشرعة على العز والمجد والفخار، والبلاد التي تختنق بجهلها، ودمارها، واختناقها، وضيقها، وضنكها وخزيها المؤلم، إن الشاعر عبر عن ذلك كله بكلمات معدودة، وتراكيب موجزة تفيض حرقة، وأسى، وانكساراً:( وتطوي مداها على فسحةٍ ضيقةٍ/ يتخيلها الطارئون بلاداً)،وهكذا، تفيض قصائد حميد سعيد بفيض دلالاتها ورؤاها الشعرية من خلال الأفق الدلالي المفتوح التي تثيره هذه القصائد في امتصاصها للأحداث التاريخية وتوظيفها المشاهد واللقطات الشعرية لتسمو وترتقي فنياً.

وهكذا تبقى نظرة الشاعر للبلاد في الواقع الراهن نظرة يائسة فيها الكثير من الانكسار والهشاشة والضياع، ليرتد إلى الماضي، لاسترجاع لحظاته المشرقة، ويكسر قتامة الواقع وسوداويته، وهذه التقنية الاسترجاعية تقنية الاسترجاع الزماكاني الماضوي تبقى في مخيلة الشاعر في جل سياقات قصائده تقريباً إزاء بغداد والواقع العراقي اليوم، كما في قوله:

عادَ من بعدِ رحيلٍ مُربِكٍ.."

يسأَلُ عنها

فرأى ما كان بستاناً .. بلاداً خَرِبةْ

ورأى سيدة الأمس التي فارقَها..

في مَسغَبةْ

ورأى مطربةَ الحيِّ عجوزاً شهربةْ

مزَّقت أوراقها واعتزلت عُشّاقها واعتكفتْ

فارقت موالها واستبدلت ناياتها والعود والمزمارَ..

بالعزلة والصمت..

وما ظلَّ على الجدران من تلك السنينْ"(11).

هنا، يسترجع حال البلاد من حال المغنية التي اعتزلت الغناء لتعيش العقم والتصحر والعجز والصمت، وكان عودة الشاعر على تلك البلاد التي عاشها عودة المغترب الذي تعرب عن المكان كما تغرب عن الزمان وانكسرت لحظات الامل والفرحة عندما تغير كل شيء إلى النقيض إلى العجز والدمار والموت والضياع فلم يعد من اثر تلك البلاد غير الدمار والخراب(فرأى ما كان بستاناً .. بلاداً خَرِبةْ/ورأى سيدة الأمس التي فارقَها../في مَسغَبةْ/ ورأى مطربةَ الحيِّ عجوزاً شهربةْ/مزَّقت أوراقها واعتزلت عُشّاقها واعتكفتْ)؛وهكذا، يؤسس حميد سعيد التراث ليكون مرآة الحاضر بمنظار تقابلي بين إشراق البلاد وحضارتها ومجدها المشرق في الماضي العريق وواقع الحال اليوم من ضياع وخراب ودمار وظلمة.

وكأن هذا الارتداد إلى التراث هو انتشاء وحضارة ومعرفة وانتماء، وقدرة على الثبات والمقاومة في ظل واقع يفيض بالحسرة، والوجاعة، والاسى المرير.

وصفوة القول: إن اختلاف القول الشعري عند حميد سعيد هو ناتج رؤيوي استشفافي في توظيف التراث وخلق المعاصرة الفنية في توظيفه وخلق متغيره الرؤيوي الذي يثري المخيلة الشعرية، ويرتقي بفاعلية المنعكسات المضمرة لمداليل قصائده على المستوى الفني، وهذا هو سر شعريتها وحداثتها المتطورة التي تخلق المتعة بملامستها للواقع الراهن بعين المعاصرة والتحديث في التقنيات والوسائل الشعرية المتطورة.

الهوامش:

(1)خمري، حسين،2007ـ نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، ص267.

(2) المرجع نفسه، ص267.

(3) المرجع نفسه،ص267.

(4)الجزار، محمد فكري،1995ـ لسانيات الاختلاف، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، مصر، ط1، ص73.

(5)سعيد،حميد،2023ـ نجمة بعد حين، دار دجلة، ص27.

(6) المصدر نفسه، ص27.

(7)المصدر نفسه، ص100.

(8)المصدر نفسه،ص42.

(9) المصدر نفسه، ص86.

(10) المصدر نفسه، ص34.

(11) المصدر نفسه، ص65.

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث