لقد ظلّ السرد الكلاسيكي، لفترة طويلة، قائمًا على مركزية الراوي الواحد، الذي يُمسك بخيوط الحكي، ويُقدّم العالم من زاوية واحدة مغلقة. ويُعزى ذلك إلى سيطرة النموذج التقريري السائد في الرواية التقليدية، حيث يُنتج الراوي العليم خطابًا فوقيًا يوحي بامتلاك الحقيقة. إلا أن تطور النظريات الأدبية، ولا سيما منذ القرن العشرين، أطاح بهذه البنية الأحادية، وفتح المجال أمام رؤية أكثر تعددية وتعقيدًا.
لقد ارتبط هذا التحول خصوصًا بظهور تيارات حداثية وما بعد حداثية، جعلت من الذات الفردية كائنًا متشظيًا، ومن العالم بنية متصدعة، ومن الخطاب السردي حقلًا للتفاعل بين وجهات نظر متعددة. وهكذا نشأت الحاجة إلى مفاهيم جديدة تُلامس هذا التعدد، وكان من أبرزها مفهوم "تعدد الأصوات" (Polyphonie)، الذي صاغه المفكر الروسي ميخائيل باختين في معرض تحليله لأعمال الروائي فيودور دوستويفسكي.
وفي هذا السياق، تبرز رواية مرايا الجنرال للكاتب المغربي طارق بكاري، باعتبارها نموذجًا سرديًا لافتًا، يُزاوج بين تعدد الأصوات وتفكك السلطة السردية. فهي رواية لا يُروى فيها الحدث من طرف راوٍ عليم أو وحيد، بل تتناوب على سردها شخصيات متعددة (الجنرال قاسم، سيمون، جواهر، الطبيبة ليلى...)، تتوزع على أزمنة وأوضاع نفسية واجتماعية متباينة.
وبهذا تُقوّض الرواية سلطة الراوي المركزي، وتمنح للذات الساردة صوتًا واعيًا بذاته وتاريخه وجراحه، مما يجعل النص أقرب إلى محكمة اعترافات روائية، يتواجه فيها الجلاد والضحية، الحاكم والمحكوم، الذكر والأنثى، العقل والجسد. فكيف يُبنى التعدد الصوتي داخل رواية مرايا الجنرال؟
1. مفهوم تعدد الأصوات
ارتبط مفهوم تعدد الأصوات في النقد الحديث باسم ميخائيل باختين، الذي بلور نظريته حول الحوارية والبوليفونية في سياق تحليله لأعمال دوستويفسكي، مؤكدًا أن الرواية العظيمة لا يمكن أن تُختزل في صوت واحد، بل هي ملتقى لأصوات مختلفة، كل منها يحمل وعيا مستقلا، ورؤية للعالم خاصة به. هذا الاستقلال الصوتي لا يعني فقط التنويع في زوايا النظر، بل يعني كذلك الاعتراف بالاختلاف العميق بين الذوات، وبأن الرواية فضاءٌ صراعيٌّ تتواجه فيه خطابات لا تتوحّد ضمن منظور فوقي.
الرواية البوليفونية إذًا، وفق باختين، هي تلك التي تتيح لكل شخصية أن تُعبّر عن نفسها، لا أن تكون مجرّد وسيلة في يد الراوي، أو انعكاسًا لوعيه... ولذلك فالرواية الحوارية تُقوّض مبدأ الراوي العليم، وتنتصر لمنطق التعدد والتعددية، بما هو تعدد في الخطاب، وتعدد في الوعي، وتعدد في الحقيقة.
إن هذا الإطار النظري سيكون عدستنا التي نقرأ من خلالها رواية مرايا الجنرال بوصفها تُعيد كتابة الإنسان من خلال تشظياته، وتبني الحقيقة لا كمعطى سابق، بل كحوار متواصل بين ذوات مأزومة، وصوت متنازع عليه باستمرار.
2. البنية السردية لرواية مرايا الجنرال
تقوم البنية السردية في رواية مرايا الجنرال على تفكيك النمط الكلاسيكي للسرد، وتؤسس لمعمار يقوم على التشظي واللايقين والتعدد، بما يتلاءم مع مضمون الرواية الذي يتمحور حول تفكك الذات، اختلال الذاكرة، وانهيار الحقيقة الثابتة. فليست البنية في هذه الرواية مجرد هيكل خارجي يحتضن الحكاية، بل هي حقل اشتغال دلالي يُعيد إنتاج المعنى وفق منطق متوتر ومفكك يعكس اضطراب الكينونة المعاصرة.
تنقسم رواية مرايا الجنرال إلى أربعة أقسام سردية كبرى، تتوزع على الشكل الآتي:
حالة عشق: يمتد من الصفحة 5 إلى الصفحة 58.
طبول الح(ر)ب: من الصفحة 59 إلى الصفحة 124.
أشباح الفرح، أضغاث الذاكرة: من الصفحة 125 إلى الصفحة 198.
خريف الجنرال: من الصفحة 199 إلى الصفحة 278.
ولا يُعد هذا التقسيم تقسيمًا زمنيًا خالصًا، بل يُعبر عن تحولات بنيوية داخلية في وعي الشخصيات وفي علاقتها بالذاكرة، والسلطة، والهوية. فكل قسم يُشكّل مرحلة من مراحل التشظي الداخلي، والسقوط التدريجي للذات الساردة، خصوصًا شخصية الجنرال قاسم جلال، الذي يستأثر بالحضور الأكبر داخل هذه الأقسام.
وتعتمد الرواية في توزيعها الداخلي على تقنية الأصوات السردية المتناوبة، إذ تتفرع هذه الأقسام إلى فصول فرعية معنونة غالبا بأسماء الشخصيات أو بصيَغ تُحيل على المتكلم (قاسم، جواهر، سيمون، ليلى)، مرفقة بتواريخ تعكس لحظة البوح ، مما يُضفي على السرد طابعًا توثيقيا / اعترافيا، ويعمق البعد الذاتي / النفسي للنص.
ومن جهة أخرى، تنكسر البنية السردية عبر رسائل مضمنة تتكرر في كل فصل (ثلاث رسائل )، ما يمنح الرواية ملمحًا فسيفسائيا إضافيا، حيث تتداخل أنماط الحكي: السرد المباشر، الاعتراف، والرسالة. ويُساهم هذا التعدد في تعزيز تفكك الحبكة التقليدية، والانزياح عن النمط الكلاسيكي في البناء. رغم حضور أصوات متعددة، فإن السرد يُمنح في الغالب لصوت قاسم جلال، الذي يشكّل المحور السردي المركزي، فيما تُمنح باقي الشخصيات حيزًا سرديًا أقل، وإن ظلّ حاسمًا في بناء التوتر الدرامي والتكامل الحواري داخل النص. وبذلك، تُقدّم الرواية تقسيمًا سرديًا لا يخضع لمنطق الخطية أو التراتبية، بل ينبني على تعدد مستويات الحكي، وتداخل الأزمنة، وتشظي الذات الراوية، ما يجعل من معمارها السردي تمثيلًا بنيويًا لتمزق الوعي الفردي والجماعي في زمن العنف والانكسار.
3. أصوات الشخصيات الرئيسة ودلالاتها
يشير مفهوم "الصوت" في السرد الروائي إلى تلك الجهة التي تنطق بالحكاية وتُؤطرها داخل منطق لغوي ومعرفي معيّن. وإذا كان السرد التقليدي يحتكم إلى صوت واحد شامل وعليم، فإن الرواية الحديثة – خصوصا تلك التي تتبنى آليات الرواية البوليفونية كما نظر لها باختين – تمنح لكل شخصية صوتًا خاصًا بها، يتموضع في اللغة والرؤية والأيديولوجيا. في مرايا الجنرال، يُفكّك طارق بكاري هذا النمط الأحادي للصوت عبر استحضار شخصيات رئيسية تتباين في خلفياتها النفسية والاجتماعية، وتتحدث بضمائر مختلفة، مشكلة فسيفساء سردية متعددة الطبقات والدلالات .
أ. قاسم جلال –
تُجسّد شخصية قاسم جلال في مرايا الجنرال تمثيلًا دراميًا لانهيار السلطة من الداخل. يدخل الجنرال الرواية فاقدًا لذاكرته، بلا ماض ولا انتماء، مما يجعله كائنًا مفرغًا من الإنسانوية، وُجد ليكون أداة في يد سلطة غاشمة، "آلة بشرية تخدم المستعمر". صوت الجنرال في البداية يبدو سلطويًا، حاسمًا، ينطق من علُ، لكنه مع توالي الأحداث ينكسر أمام ذاته، وخصوصًا في علاقته بجواهر، حيث تتحول لهجته من خطاب القوة إلى خطاب الارتباك والتملك. وتبلغ هشاشته ذروتها في جلسات العلاج النفسي، حين يغدو صوته مجرّد بوحٍ مأزوم، يفتقد اليقين، ويُفكّك وهم السيطرة. هكذا يصبح الجنرال مرآةً مشروخةً للذات السلطوية، ويُجسّد تفكك الصوت الواحد داخل رواية تقوم أساسًا على التعدد والحوارية.
ب. جواهر –
تُقدَّم شخصية جواهر في رواية مرايا الجنرال بوصفها امرأة عائدة من منفى داخلي وخارجي، منهكة من النضال، ومتعبة من الذاكرة. هي شخصية مثقلة بالماضي، تربطها علاقة بـ"سيمون" المناضل اليهودي ، وحين تعود من المنفى فهي تلوح بمنديله و بذلك تنكأ جرحا ينام في قلب الجنرال. ليست جواهر مجرد امرأة في حياة الجنرال، بل تمثل مرآة لضعفه النفسي والسياسي، إذ يعشقها بجنون، لكنه يعجز عن امتلاكها أو فهمها. هي ليست شخصية هامشية في النص، بل تُجسد مفارقة الرواية الكبرى: حين تحضر المرأة، تتكسر السلطة. وحين تحب، لا تكون تابعة، بل حرة، مثقلة بالتاريخ
ت. سيمون –
سيمون هو مناضل يهودي ماركسي، يجسّد النقاء السياسي والانتماء إلى قضايا التحرر والعدالة تعرّض للاعتقال والتعذيب، فكتب من الزنزانة رسائل مؤلمة إلى حبيبته "جواهر"، تنبض بالحب والخذلان الشخصي ، يمثل صوته في الرواية ضميرًا صامتًا، يواجه القسوة بالصبر...هو ثابت فكريا، مهزوم عاطفيا. يمثل في الرواية الصوت الصامت للمقاومة، الذي يصمد أمام السوط لكنه يتكسر أمام الحب. وهنا تكمن مأساته: مناضل نزيه، لكنه عاجز عن الوفاء للمرأة التي أحبّته بصدق. حضوره الرمزي يُربك الجنرال، لأنه يُجسد ما لا يقدر الجنرال على بلوغه: إنسانية جُرحت، لكنها لم تتحوّل إلى جلاد..
ث. ليلى –
ليلى حداد هي طبيبة نفسية شابة، تمثل في الرواية صوت الإصغاء الهادئ والمعرفة المتروية، تقف في مواجهة الجنرال لا من موقع المواجهة الصدامية، بل من موقع العلاج والتحليل. تدخل إلى عالمه بوصفها مرآة تعكس شروخه الداخلية، تحاوره لتفهمه وتُفهمه ذاته. هي الشخصية الوحيدة التي تُشعر الجنرال بالخوف الحقيقي: الخوف من أن يُرى كما هو. تمتاز ليلى بالحكمة، بالمسافة الأخلاقية، وبالرغبة في تحرير الآخر من أوهامه، لكنها في العمق تُصارع جراحها هي أيضًا، وتحمل ذاكرة قهر خاصة بها.
تركيب دلالي:حين تتداخل هذه الأصوات، لا تنتج الرواية سردًا موحدًا، بل مأساة سردية مكتوبة بأربعة أصوات متضاربة، تتقاطع في مناطق، وتتواجه في أخرى. وكل صوت يمثل: أزمة في السلطة (قاسم جلال)// أزمة في الحب (جواهر) // أزمة في الالتزام (سيمون اليهودي ) // أزمة في الفهم (ليلى حداد) والحصيلة حوار داخلي متشظٍّ بين الذوات، يُعيد إنتاج الرواية لا كخطاب مكتمل، بل كسؤال مفتوح حول السلطة، الهوية، والذاكرة.
و كخلاصة لقد كشفت رواية مرايا الجنرال لطارق بكاري عن قدرة استثنائية على مساءلة النموذج السردي الكلاسيكي، والذهاب بعيدًا في تجريب بنية سردية مفككة، متعددة الأصوات، تنبني على تقويض الصوت الأحادي، وتفجير مركزية المعنى. فالكاتب أسس لنظام سردي يقوم على الحوارية الباختينية، حيث تتجاور الأصوات، وتتقاطع، وتتعارض، في فسيفساء لغوية ومعرفية تشبه تمزق الذات المعاصرة تحت وطأة القمع، والتاريخ، والفقد. وقد بيّنت الدراسة أن تعدد الأصوات في الرواية لا ينهض بوظيفة زخرفية أو تقنية، بل هو اختيار جمالي وفلسفي يُسائل السلطة في كل تجلياتها: السياسية، والعاطفية، والرمزية. فكل صوت من الأصوات السردية (قاسم، جواهر، سيمون، ليلى) يُقدَّم بوصفه حقيقةً متوترة، وهوية غير مكتملة، ورؤية للعالم محكومة بالجرح والخيبة والاعتراف.
مجلة فن السرد | قراءات ودراسات
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا