أحد نصوص "ورشة الكتابة الفنيّة" في " فنّ السّرد التّعبيري"، مؤسّسة الظّ.هرات الشّاملة| الفريد.يس
باشراف الأديبة رجاء بكرية
الخَيلُ الّتي أُحِب | حَمدة سَعايدة
حِصانٌ أصيل، عيناهُ واسعتان، فيهما هدوء لا يوصف، هدوءٌ يجعلُ كلَّ الأصواتِ حولِي تَختفِي فجأة. لم أعُدْ أسمعُ شيئًا، فقط أنظرُ إلى عينيهِ وأشعرُ أنَّهُ يفهمُ ما يجولُ في خيالي، كما لو أن هذا المخلوق البديع يقرأني من الداخل. ذكاء عميق الأثر يلمع وسط السكون، ولا يُترجم إلى كلمات، بل إلى شعور يُلامس القلب مباشرة، شعور بالطمأنينة، بالاحتواء.
وضعتُ يدي على عُنُقِه، كانت دافئة، وبدفئها شعرتُ بشيء يتسلل إليّ، شيء حي، حقيقي، كأنّي ألمسُ نبضَ العالمِ يَنبضُ حياة، نعم، لكن ليس الحياةَ الّتي نعرِفُها، بل حياة أخرى نقية، صافية، خالية من الضجيج والتّصنُّع. شعرتُ كأنّي ألمس جزءاً من روحي بحَثتُ عنه طويلًا، وعثرتُ عليهِ على غفلة، وكأنَّ هذه اليد التي وُضعت على عنقِهِ، وجدت مكانها الطبيعيّّ، الّذي تنتمي إليه منذ زمن.
الخيلُ لا تَحكي، لكنّها تقولُ الكثيرَ بنظراتِها، بحركاتِها، وحتّى بِصمتِها. وهذا ما صدَمَني، أَنّي أفهَمُها دون أن أحتاجَ الى كلمات. كنتُ أشعرُ أنَّها تفهَمُنِي أيضًا. كانت تنظرُ إليّ بطريقةٍ جعلتني أشكُّ في صداقاتي مع البشَر، وأقصدُ كلَّ من عاشوا حولي، وَفي حياتي. كأنّ أحدا لم يراني غيرَ هذه الفرس الفاتِنة. قربُهُم مِنّي، لم يمنحني الثِّقَةَ أنّهم يشعرونَ بي كما شعرتْ بي خلالَ لحظات قليلة.
لحظةَ كنتُ أمتطيها كُنتُ شيئا آخرَ مختلفا تمامًا عن أي شيء جرَّبتُهُ من قبل. لم يكُن مُجرَّد تجربةً عاديّة فوقَ ظهرِ خيل، بل كأنني جزءٌ من جسدهِ، أو كأنّهُ أصبح امتدادًا لي. الهواء يصفع وجهي، نعم، لكنّها صفعةٌ خفيفة مُشبعةٌ بالحريّةِ والأمل. الأرض تهتز تحت حوافرهِ، دونَ أنْ تثيرَ الخوفَ، بل تعيدُ إليّ إحساسي بنفسي، بجسدي. كأنّي أكتشفُ لأوّلِ مرّة كيف يكون الشُّعورُ بالتحكُّم والتَّوازن والاندماج مع كائن حيٍّ آخر.
كنتُ مطمئنّة، على نحوٍ لم أختبرهُ من قبل، وكأنَّ جسدي وجد توازنَهُ الحقيقيَّ فوق ظهره. لم أكن خائفة، بل بالعكس، كنتُ أشعر أنّني في مكاني الصّحيح. ذاتَ يومٍ ظننتُ أنّ الخيلَ مجرّدَ حيوان قويّ وأنيق، لكنّني أدركت الآنَ أنّهُ مرآةٌ للمشاعر، يعكسُ كلَّ ما فينا دونَ أن ينطقَ بكلمة، وكأنَّهُ يرانا دون أن نحتاج لشرحِ أنفسِنا.
الخَيلُ عالمٌ غريب! إنّهُ لا يسمح لك بالاقترابِ منهُ إلا إذا شعر بك، بصدقِ روحِك. وهذه النقطة كانتِ الفاصلة بيننا، فعندما شعرتُ أنَّهُ يرحِّبُ بي، عرفتُ أنَّني صادقة. هذه التَّجربة لم تكُن مجرَّدَ امتطاءَ صهوته والجريَ بعيداً، بل كانت مكاشفة، مواجهة مع ذاتي، وهديّة كنتُ بحاجةٍ إليها دون أن أعرفَ. وجدتُ في الخيلِ صديقًا لا يُحكَم، ورفيقًا يفهم دون كلمات، وشعرتً أَّنني لستُ وحدي، وأنّ ما بِقلبي يمكنُ أن يُفهمَ، حتّى وإن لم يُقَل.
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا