ترانيم الظلال والفناجين | عمر الموريف

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد

ترانيم الظلال والفناجين | عمر الموريف

كانت ضرورة اقتفاء أثر حاجات البيت تدفعه قسراً لمدّ خطواته كيلومترات نحو قلب مدينة قلعة مكونة، أو حضن مركز بومالن دادس. وبين تلك المسافات المجبورة، كان يقتنص وهلة للجلوس في محراب أحد المقاهي، يتجرع جرعات يومه من البن الأسود، علّه يروي ظمأ روحه ببضع صفحات من سفره الورقي.

لكن صيف قلعة مكونة كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، مثقلاً بالزوار، نادرًا ما يجد للجلوس موضع قدم. لذا، وجه بوصلة بحثه المرهقة نحو بومالن دادس، متوسلاً أن يكون حظه أوفر من سابقه الذي ابتلعته العطلات الصاخبة.

قَطعَ المسافة على أجنحة أغنية راي عتيقة، يحاول عبثاً أن يستدعي أشباح ذكريات باهتة، لكن الماضي كان يلوح له من بعيد كسراب خادع.

توقف أمام مقهى يترنح على حافة وادي دادس، فبدا له كشجرة عجوز هزيلة، عروقها جافة لا حياة فيها. كم كان مؤلماً أن يشهد احتضار تلك الحقول التي كانت ذات يوم ترتدي وشاحاً أخضر مطرزاً بخيوط الماء، وتستقبل على ضفافها خطوات الجمال. كان المشهد انعكاساً مرعباً لإحساسه وهو يرى الزمن يرسم خرائطه على جسده، مبشراً ببدايات الفناء.

تسللت غصة إلى حلقه، لكن صمت المكان البارد دعاه إلى المغامرة. دفع باب المقهى، فاستقبله بصمت مطبق، كفم أغلق على سر دفين. جالت عيناه في الفراغ بحثاً عن أي نبض، لكن لا جدوى.

من سرداب مظلم صعدت طفلة تحمل على ظهرها ملاكاً نائماً. سألها بصوت خافت: "هل يسكن هنا صاحب هذا المقهى؟"

أشارت بإصبعها الصغير نحو الأعلى، حيث كان باب أخضر يغمز من بعيد، وأردفت بهمس: "اطرق الباب هناك... حيث يرقد صاحب هذا المكان."

شكرها بابتسامة ذابلة، وعاد يجرّ خطواته المثقلة إلى السيارة، هارباً نحو مقهى آخر يتربص على مخرج المدينة، كغزال وحيد بجانب محطة وقود. أوقف مركبته المرهقة في المرآب، ونزل. كان المكان بدوره قفصاً فارغاً، والهدوء يرفرف بأجنحته الثقيلة حوله. شعر بنشوة عابرة لهذا الاختيار الذي بدا واعداً بالسكينة.

استقر في إحدى الزوايا، وخلفه شبح نادل صامت وآخر تبدو ملامحه كشجرة عتيقة، ربما هو سيد المكان. غرق في الانتظار، كعابر سبيل ينتظر قطاراً لا يأتي، منتظراً أن يكسر النادل جدار الصمت ليسأله عن رغبته في جرعة من الظلام السائل. لكن النادل ظل تمثالاً من شمع. التفت إليه بنظرة استفسار، فبادله بنظرة باردة كجليد الشتاء. عاد يقلب في صفحات هاتفه الزجاجية، الوقت ينساب من بين أصابعه كرمال الصحراء، وهو والنادل أسيران لصمت المكان.

ابتسم بمرارة، واستسلم للهزيمة. غادر متجهاً نحو قلب المدينة النابض، وفي الطريق لاحت له واحة أخرى، مقهى بدا بابه نصف مغلق، وشخص وحيد يجلس قرب المدخل كظل باهت. لم يتوقف، وانطلق باحثاً عن ملاذه الأخير.

وأخيراً، وصل إلى المقهى الرابع، الذي لم يخنه حدسه هذه المرة. حصل على فنجانه الداكن، في ركن تداعبه أنفاس باردة، بينما كان هدير الشارع الصاخب يحاول عبثاً أن يخترق حصن تركيزه. كان في المقهى عدد من الرواد، لكن كل منهم كان سابحاً في بحر أفكاره أو متشبثاً بشاشة هاتفه، فكان للهدوء سلطة خفية في المكان.

لكن نشوة اللحظة الهاربة لم تدم سوى دقائق معدودة، قبل أن تقتحم المكان فيالق من البشر، أغلبهم بدا كطيور مهاجرة عادت من بعيد. كان من حقهم أن ينعموا بدفء اللحظة، لكن ضجيجهم أيقظ سكون المكان.

 حمل أمتعته المثقلة باليأس، وحاسبه النادل بنظرة فاترة، ثم غادر، متمنياً للجميع لحظات أقل صخباً.

مجلة فن السرد | محاكاة

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث