اقتــ (ــفـ / ـد) اء | بلال الخوخي

الكاتب: بلال.ختاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد

إنها الحافلة الثانية، التي تصل خلال ربع ساعة إلى الموقف النهائي. أرتقب ما ستجود به، فيهبط فوج الوجوه والأكتاف المتزاحمة. ألمحها تنتظر من خلفهم، لا تتسابق على البوابة، ينصرف الناس فاتحين لها مجال الهبوط، تمد رجلها اليمنى إلى الرصيف فيظهر جزء من ساقها بعد تقلص طرف سروالها الجينز، يدوس قاع حذائها الأبيض على جزء مكسور من الأرض، فيتناثر من تحته رذاذ ماء عكر يصيب سروالها. لا تلقي بالا للبقع البنية العالقة به، تُنزل رجلها اليسرى وتنظر يمنة ويسرة. 

الاضطراب الواضح على محياها، والتيه المرسوم في عينيها، جعلاني أختارها، فوقفت، وتبعتها.


تهبط عند بعض صخور مْرْقالة وتجلس. على بعد أمتار منها، صياد نصب صنارته واتكأ، منتظرا ما سيجود به البحر. تأملَتْه طويلا فتأملْتُه بدوري، ظل متكئا لدقائق في انتظار اهتزاز يدفعه للنهوض، كان كحيوان محنط ينتظر ساعة البعث.

 الريح تهز النوابض المعلقة بشعر الفتاة، تتراقص بخفة، فيتموج اللمعان المنعكس منها. أقترب منها وأجلس، أحتفظ بمسافة بيننا، لأني لا أريد أن أكسر هوايتي بفعلٍ يندرج في خانة الحقارة. الصياد لا يبالي باهتزاز خيطه، تفسيري الوحيد: انشغاله باهتزازات الروح. الفتاة، تمد خيطا خفيا إلى الصياد، غالبا هو نفس الخيط الذي أمده إليها. هذا الصيد الثلاثي، التأملي، هو درة المعاني الوجودية، حين تسكن الروح بتأمل الآخر، بدون إضمار شر، بدون اشتهاء نزوة، بدون رغبة، تأمل فقط، لأن الآخر يمثلنا، يعكسنا، ويمنحنا علة للبقاء، علة لا يقصد أن يمنحنا إياها.

يلف الصياد خيط صنارته الدقيق، ثم يفككها، يحمل السطل والحقيبة، ويرتقي الصخور نحو الطريق.

السكون البادي على محياه، الدقة المشعة من عينيه، جعلاني أهم واقفا، وأتبعه.

يمشي على الرصيف بمحاذاة الجزء المطل على البحر. على بعد أمتار منه، شيخ يتوكأ على عصاه ويكد في المشي. يتجاوزه الصياد فأتجاوزه بدوري. يحث الخطا كأن له موعدا يخاف أن يخلفه.

الريح تهز حواف قبعة الخيش، فيرفرف الظل على عينيه. 

أقلص المسافة بيننا، وأجعل خطواتي موافقة لإيقاع خطوه. لحيته الخفيفة، المشتتة، بها لمسات من يد الزمن البيضاء. وجهه ذو الوجنتين المقوستين، ذو الذقن المعوج قليلا إلى الأمام، به ندبة قرب الأنف. أهم أن أسأله، لولا أن رأيت أن السلامة في الابتعاد، فلأكن مجرد شخص عابر في خلفية حياته، ولأتركه في سكينته التي أفاض منها على الفتاة.

أجلس حيث كنت، قرب موقف الحافلات، ماذا كنست اليوم؟ وماذا جمعت؟ منذ الصباح وأنا أقتفي، لكن الفتاة والصياد، استحوذا على الجزء الأكبر، إنهما امتداد للإنسان الأصلي. 

تتوقف حافلة أخرى، فيندفع الناس منها وينسِلون. تنسحب الحافلة، فتفسح الرؤية نحو الرصيف الآخر، حيث يمشي، هو نفسه، الشيخ، بعكازه، بجلبابه. يمشي ببطء، مقوسا، كأن سنين عمره تكومت وتكاثفت فوق ظهره.

الخفوت المتكالب على نور وجهه، الجب حيث تسكن عيناه، جعلاني أنهض، وأمشي خلفه…

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث