أوديب آكل الأقلام | بلال الخوخي

الكاتب: بلال.ختاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

مجلة فن السرد أوديب

في انتظار الثالثة مساء، أبعثر محتويات محفظتي فوق السرير، دفتران سميكان، وكتاب اللغة العربية، وأقلام عضضت أغطيتها وأجزاء من أغشيتها البلاستيكية. لا أذكر متى اكتسبت عادة العض والمضغ هذه، أكون منكفئا على دروسي فلا أحسني إلا وقد غرزت أنيابي في القلم المحمول. تنهرني الأستاذة سميرة _باستمرار_ عن هذا الفعل، حتى أنها اضطرت ذات يوم إلى استدعاء ولي أمري، رمقتني ساهيا خلال الامتحان، قلمي الذي وجب عليه التحرك فوق الورقة، كان يتلاشى في فمي شيئا فشيئا، أخبرتها أن هذه عادتي خلال التفكير، لكنها أصرت على استدعاء ولي أمري.


مع اقتراب الثالثة مساء، أجدني ألوك "استدعاء ولي أمري"، تخلف الجملة في فمي مرارة مقيئة، فأبصق نحو أشيائي المبعثرة، أمسح فمي بكم قميصي ثم أستدير نحو المرآة المثلثة، هي في الحقيقة، مجرد جزء مكسور من مرآة أكبر كان يزينها إطار خشبي، وبما أنني لا أكترث للمظاهر، فيكفيني أنها تؤدي وظيفتها كي تحتفظ بمكانتها عندي كمرآة. أتفحص الملامح المنعكسة عليها، أمسك بذقني وأرفع رأسي حتى تظهر تفاحتي، أضغط بيديّ على عنقي كأنما أمسك بعنق شخص آخر، أحاول خنقه بكل ما أوتيت من قوة، لكن رغبته في الحياة تفلته مني.


بيني وبين الثالثة دقائق معدودات، الأستاذة سميرة، أذعنت للأمر الواقع، بعد تدخل مباشر من المدير، قال لها: "ما دام لا يتسبب في عرقلة درسك، فدعيه، أفضل من تجواله بين أروقة المؤسسة". التحقت بمكاني، حرصت أن لا أرفع أي قلم نحو فمي، أردت حقا، أن أنال رضاها وأبدو لها في رداء التلميذ المنضبط، لكن علاقتي مع القلم، لا يحكمها وعيي المتصرف في حركات الجسم، لأنني، بمجرد أن أشرد قليلا، أبدأ عملية المضغ، مضغ صارت تتجاهله وتتجاهلني.


دقيقة واحدة تفصلنا، أكدس المبعثرات داخل المحفظة، أعدل ياقة قميصي وأستدعي ابتسامة من غياهب المرآة المثلثة. أزيل حبتي القطن من أذنيّ؛ فتغور فيهما سيول الصراخ الوافدة من المطبخ، تُسْتفز مشاعري رغم محاولاتي الحثيثة لضبط النفس. أحس كأن إبرا ساخنة تخترق جسدي. أتفل جزء القلم المنكسر من فمي، وأقذف بالقلم نحو الحائط. يتشكل أمامي مشهد اليدين والعنق، أندمج فيه، أضغط بقوة، قوة القهر المتراكم في جوفي من سنين خلت، القوة المنبعثة من العجز، نعم، فالعجز يضمر قوة نووية قد تسبب دمارا شاملا. يرتخي الجسد بين يديّ فيسقط أرضا، أسقط فوقه وأتابع الخنق كي لا تتسرب إليه ذرة حياة واحدة، أسد كل أبواب النجاة، من أجل نجاة أمي، المرأة المصدومة في ركن المطبخ، المتصلبة كعمود رخام، الشاخصة بعينين سابحتين في زرقتين، زرقة إلهية صافية، وزرقة آدمية قميئة.


الثالثة مساء، أشتاق للطاولة الثانية جهة النافذة المواجهة لمكتب الأستاذة سميرة، وأفكر في أنها _ربما_ ترثي لحالي، وينتابها بعض تأنيب الضمير، أو، ربما، تجعل مني المثال الحي لتجسيد عقدة أوديب، فتسميني بين التلاميذ بـ"أوديب آكل الأقلام"، فيضحكون ويتخذون مني محور مجالسهم الساخرة جوار المراحيض. أسمع نداء الحارس وصلصلة الأبواب الحديدية، أنجر ضمن الحشد نحو قاعة الزيارة، أراها عند الطاولة، الثانية، اختفت كدمات عينيها إلا من آثار طفيفة، واكتسى وجهها بإشراقة ظننتها لن تعود يوما. أنفجر باكيا، من الفرح، أقسم لها أنني أبكي من الفرح، لكنها لا تصدقني، تمسح دموعي وتحدثني عن تطورات القضية وأقوال المحامي المطَمئِمة، أتجاوز كل ذلك وأقول لها: "اشتقتك أمي"، فتعانقني، وتنخرط في بكاء طويل.


نصف ساعة بعد الزيارة، أقرفص على سريري بالزنزانة، يخترق صراخه أذنيّ، ثم يتبعه أنينها، أضع لفافتي قطن فيهما؛ فتخفت الأصوات. أفرغ محتويات المحفظة، وأحمل مرآتي المثلثة، قد يعاقبونني إذا وجدوها عندي، لكن، ماعاد يهمني شيء في الحياة، مادامت زرقة الإله عادت لتمتد في عيني أمي. أتأمل وجهي، ثم أرفع رأسي حتى أرى تفاحتي، وقبل أن أقبض العنق الماثل أمامي، تستهويني حواف المثلث، فأمرر أناملي عليها، أبتسم، فيعتريني خدر لذيذ، أنظر إلى الحمرة الآخذة في استعمار الملاءة، ثم إلى الوجوه الفزعة الحائمة حولي، يصرخون: "النجدة، النجدة، لقد قطع معصمه"، فأجيبهم من داخلي: "أرجو أن لا ينجدون". تتجلى أمي في الأفق السماوي، أحاول أن أناديها فلا أجد صوتي، أرفع يدي، مودعا، فإذا بها تبتسم لي، ثم تضع يديها على وجهها وتمسح عينيها، ترد عليّ بإشارة الوداع، وتتلاشى.

مجلة فن السرد | محاكاة


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث