الولد الذي التهم بطن أمه | بلال الخوخي

الكاتب: بلال.ختاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
مجلة فن السرد


لولا أنه يجيد ترقيع النعال، ما اقترب منه أحدهم. عندما يكونون بباب دكانه، يتصنعون الابتسامات، بيد أنهم يظلون محدقين في وجهه، كأنما يقرؤون وشما على جبينه ليستدلوا على ذنبه العظيم، مثلما سيقرؤون ما على جبين الدجال حسب إيمانهم. يمدون إليه الدراهم البخسة لقاء ما أصلحه من أحذية مهترئة وما رتقه من ثقوب وتمزقات، ثم يهيمون مبتعدين كما لو يفرون من جهنم. 

إن حكايته على كل الألسن، تُستحضر في كل المناسبات عدا التي يحضرها، فهم بطبيعتهم المتخوفة من الغرباء، يخشون أن تحيا فيه الوحشية الفطرية، لذلك يحرصون على عدم ذكر الحادثة إلا في غيابه.

_ لماذا تمنعوننا عن هذا الرجل يا أبي؟

_ ماذا سأقول لك؟ عندما جاء أمه المخاض، اندفع من بطنها كأنما لفظت جسما غير مرغوب، ولم يتبع ذلك أي شيء مما يتبع الولادة عادة، لا دماء ولا بقايا مشيمة، كان الأمر كما لو أن الولد قد التهم كل شيء قبل خروجه، فصار هذا الوصف ملازما له، الولد الذي التهم بطن أمه.

_ أ بمجرد ذلك؟

_ لا، فقد توالت العلامات بعدها، ماتت أمه، وتبعها أبوه، ثم لم نعلم أي الناس تكفلوا به، الجميع تعجبوا، فليس في البلدة سوى من تعرف من الأسر، ولم يحل عليها غريب، لذلك، رجحنا أن من أرضعه ورباه، جنية من العالم السفلي.

_ وهل يعني هذا أنه أخ الجن في الرضاعة؟

_ يمكن لك


تستمر الحكايات ويستمر في وجوده المعلوم بينهم، ورغم استعاذاتهم المتكررة من شره، يلوذون به لقضاء حوائجهم، يقرضهم إذا ما افتقروا ولا يضيق عليهم، يهدي أولادهم نعالا جديدة إذا مانجحوا في دراستهم، يحمل مريضهم على ظهره إلى أن يبلغ به المستوصف القابع فوق مرتفع صعب الارتقاء…

كان راجعا من رحلة سقي الماء الشاقة عندما لمح شيخ القبيلة يقود فتاة من يدها نحو الكوخ المهجور داخل الغابة، ألقى ما يحمل من قنانٍ وانقض عليه، فرّت الفتاة وصرخ الشيخ مناديا:

_ يا أهل القبيلة، يا أهل القبيلة، أنجدوني من شر هذا المجنون، إنه ينوي قتلي والتهامي مثلما التهم والديه.


توافد الناس من كل الجهات دون تأخر، نظر الإسكافي في أوجههم، فحزر أنهم على بينة مما يفعله شيخهم فيتغاضون، وعندما تجمهروا حولهما، تابع الشيخ:

_ لقد رأيت هذا المجنون يجر فاطمة بنت صالح نحو كوخ الجن، ولما انقضضت عليه استغل ضعفي فأطاحني بقوته، لكنه لا يعلم أن قوة الجماعة أعظم، هاهو الذي فض بكارات بناتكم واعتدى عليهن، والله ماكنت أشك إلا فيه، فما ظنكم برجل وحيد لا أهل له ولا عائلة؟

همهم الناس بين إقبال وإدبار في الآراء، عيونهم متوجسة من طرفين، لكن خوفهم من السلطة غلب خوفهم من الجن، فانبرى أحدهم إلى حجر وصوبه نحو رأس الإسكافي، فقلده الآخرون وتساقطت الأحجار على رأسه تترى، فولى هاربا من ويلات جهلهم واخترقهم متوجها نحو الكوخ، إلا أن شيخهم وجدها فرصته المؤاتية، فأصدر أوامره بحرق الكوخ بمن فيه كي يتخلصوا من شر ولد الجن الذي التهم بطن أمه. 

تحلقوا حول الكوخ، تتطاير الشرارات من عيونهم قبل العيدان التي يحملون، يصرخون ويشتمون، متحمسين للقضاء على الشيطان الساكن بينهم لسنين. تقدم شيخهم، فألقى بالجذوة الأولى، ثم فعل الآخرون، نظروا إلى أسنان اللهب تقضم الخشب القديم، انسل من بينهم طفل واقترب من نافذة صغيرة رأى فيها رأسا مطلة، وعينين دامعتين، ولسانا صارخا:

_ هذه النار أرحم علي منكم، إنها كنار إبراهيم حتى وإن التهمتني، أما أنت أيها الشيخ، أيها المبجل بين القوم، فأين مفرك من ذنوبك، من اغتصابك أمي وقتلك أبي، من اغتصابك بنات القرية؟ إن لك يوما لا مهرب منه.

ابتلع الولد الكلمات الوافدة إلى أذنيه، التفت ينظر في وجه الشيخ المبتسم، فاشتعلت بداخله نار أخرى، نار الانتقام لأخته المغتصبة.



التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث