على حدود الحلم | بقلم المبدعة: زهيرة الأمغاري
ترجّل من سيارته، حقيبته بيده، وهندامه المرتب يعكس جديته. خطواته الواثقة وحضوره الهادئ كانا كفيلين بفرض احترامه دون أن ينطق بكلمة.
رفع عينيه إلى اللافتة الكبيرة المعلقة فوق الباب الواسع: 'الثانوية التأهيلية الرازي'. لقد اجتاز هذا الباب مراتٍ عديدة، لكن هذه المرة كانت مختلفة، لم تكن كغيرها.
يمر قرب قاعات الدروس، يوزع الابتسامة على الجميع. بعد أربعة عقود أدى فيها رسالته، حان وقت طي صفحة مليئة بالذكريات والصراعات، التي شكّلت مسار حياته. الأستاذ عبد الرحمان أتم عامه الرابع والستين، وبات من حقه الحصول على بعض الراحة والسكينة. لقد أعطى من روحه لكل طالب مر في حياته، كان يؤمن أن كل طالب هو أكثر من مجرد رقم في سجل المدرسة، بل هو إنسان يحمل حلما وأملا، وأن رسالته الحقيقية تكمن في مساعدتهم على أن يصبحوا أفضل نسخة من أنفسهم. الآن، حان الوقت ليغلق فصلًا طويلًا من حياته، ويستمتع بالراحة التي يستحقها بعد رحلة من التفاني والعطاء.
كان ذلك اليوم مشمسًا، السماء بدت صافية، لكن الهواء مثقل برائحة المواد الكيماوية المنبعثة من المنطقة الصناعية القريبة. إنها المدينة التي قضى فيها سنوات طويلة، لكنه لم يتأقلم معها أبدًا. رغم جمال شواطئها وهدوء أفقها، كانت شوارعها تملؤه بالضيق، وكان الزحام يعيق سيره في طرقاتها، والسيارات تتكدس في ساعة الذروة... الحفر المنتشرة في كل زاوية، طالما أثارت استياءه، تتناثر على الطرقات وكأنها جروح غائرة في جسد المدينة، والأزبال تتراكم في الشوارع، مما يثير التساؤل: من المسؤول عن هذا الإهمال؟
دخل إلى شقته متعبًا بعد الحفل الصغير الذي أقامه زملاؤه لتوديعه. اتجه إلى الشرفة المفتوحة المطلة على الزقاق. حتى بعد سنوات لم يخفت صوت جارته المزعج، صراخها يخترق الجدران. أغلق الشرفة كي يحصل على بعض السلام والهدوء، بينما تسللت إلى ذهنه الفكرة التي رافقته منذ بضع سنوات، كاد الزمن أن يطويها، لكنها اليوم عادت لتشعل فيه الحماس من جديد. ابتسم، وطلب من زوجته كوبًا من القهوة السوداء، لعلّ مرارتها تصلح ما أفسده ضجيج المدينة.
الآن، وبعد سنوات من الانتظار، عزم عبد الرحمان على تحقيق حلمه المؤجل، تجدد في داخله شعور الانتماء إلى حيث ترقد جذوره عميقًا في التراب. علم أن الوقت قد حان للعودة، لبناء بيت يعكس ذكرياته الجميلة ويمنحه الفرصة للابتعاد عن ضغوط الحياة اليومية. محاطًا بالهواء النقي، والمساحات الخضراء الواسعة التي تُنعش الروح وتعزز الشعور بالسلام الداخلي.
قضى أيامًا في التخطيط لرحلته إلى القرية، استعد بكل حماس، محملاً بأمل ورغبة في بداية جديدة. كانت تجتاحه مشاعر التوتر، وبينما كان في طريق السفر، تذكر كيف كانت الحياة بسيطة هناك، ومليئة بالدفء العائلي. وصل إلى مشارف القرية قرابة الظهيرة، لاحظ كيف تغيرت فيها بعض الأمور، بينما بقيت أخرى كما هي منذ آخر زيارة له. استقبله أهل القرية بترحاب كبير، الابتسامات تملأ وجوه الجميع، شعر بالانتماء والألفة، وهو يجدد صلته بجذوره. توجه إلى بيت عمه العجوز، كان لقاؤه به مليئًا بمشاعر الدهشة والشوق.
بعد أن أخذ قسطًا من الراحة، قاده العم في جولة تفقدية لقطعة الأرض المنشودة. كان الجو مشبعًا برائحة التراب والنباتات البرية، وصوت الريح ينساب بين الأشجار كأنه يهمس بحكايات الماضي. انتابه حنين غامر لهذا المكان، ما زاد من إصراره على العودة. وبينما كان يتجول شعر وكأن هناك سحرا يلتف حوله، وكأن الأرض تعرفه، تتذكر خطواته التي مشى بها عليها، رنت في أذنه كلمات عمه عن أن الأرض تحفظ من عبروا فوقها، وتشتاق لمن غابوا عنها طويلًا.
كانت الشمس تميل نحو المغيب، جلس على الأرض بهدوء، مدّ يده إلى التراب قابضًا على حفنة منه بين أصابعه. لوهلة بدا له كأن الأرض تتنفس تحت أنامله، نبضها الخافت تردد في أطراف أصابعه، كأنها تحاول أن تتواصل معه. شعر برجفة خفيفة تسري في جسده، تزامنت مع هبوب نسمة ريح مفاجئة نثرت حبات التراب في الهواء. تطاير الغبار باتجاه شجرة معمرة، وعند جذعها، لمح قطعة خشب داكنة بالكاد تبرز من التربة، كأن الأرض قد لفظتها لتوّها. توجه نحوها ومد يده وسحبها، لقد كان صندوقًا خشبيًا صغيرًا بدا وكأنه انتظر طويلًا ليفتح من جديد. مرر أصابعه على سطحه وحين رفع الغطاء، وجد بداخله أوراقًا تآكلت أطرافها بفعل الزمن، كانت مكتوبة بخط اليد. وبينما كان يتصفحها، لفت انتباهه رسم يدوي لمخطط بيت، كان يبدو كأنه حلم حيّ لأحد أجداده. مرر له رسالة من الماضي:《ابن هذا البيت، واجعل حلمنا حقيقة》. في تلك اللحظة بات هذا المشروع بالنسبة له أكثر من مجرد بناء جدران وسقف، بل أصبح امتدادًا لأحلام أجداده التي لم تُستكمل.
بعد فترة من العمل الجاد والصبر، استطاع عبد الرحمان أخيرًا أن يرى بعينيه حلمه قائما أمامه. في يوم الانتقال، اجتمع أهل القرية لاستقباله بحفاوة وفرح. أقام حفلاً في فناء البيت الجديد، توافد الأصدقاء والجيران للاحتفال معه، جلس رفقتهم وبجانبه زوجته وأولاده، محاطًا بأصوات الضحكات والموسيقى. شعر بالإنجاز والرضا يملأ قلبه، وكأن الزمن نفسه قد تجمد لحظة ليشاهد هذا الحلم قد تحقق. لم يكن بحاجة إلى كلمات ليشعر برضا أجداده، فقد كانت الروح التي سكنت الأرض، والأيدي التي رسمت المخطط تبارك ما فعله. وهذا البيت، أصبح جسرًا بين الماضي والمستقبل، ليحمل في كل زاوية ذكرى، وفي كل جدار إنجازا تحقق أخيرًا، حيث سيعيش الآن حياة مليئة بالسعادة والسلام، في أحضان الطبيعة، ومع أحبائه.
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا