![]() |
ظلال المدى | بقلم سناء فاضل |
عندما غادرت، كنت أظن أنني سأخلع عني كل الأشیاء وأتركها خلفي، حتى تلك الأشیاء الجمیلة التي یوجعني عبیر ذكراھا، لكنني كنت مخطئة تمامًا؛ فھي تركت بصماتھا داخلي، حتى لو حاولت الھروب منھا. ما زلت أذكر آخر لیلة لي بین جدران بیتي، أجمع حقيبتي على مھل، بینما ینساب صوت درویش من ھاتفي؛ شعرت أن القصیدة تترجم صمتي قبل كلماتي... ألمّ أغراضي تحت نظرات أمي، التي تراقبني بصمت، فھي تحفظ ملامحي، وكأنھا تحاول أن تخبئني في عینيھا وقلبھا، قبل أن أغادر.
كل زاویة ھنا تشھد على حیاتي، كل ركن یحمل أثر یدي، ویھمس لي أنني راحلة لا محالة، لكنني لا أغادر تمامًا، فالوطن الذي یسكنني لا یحزم في حقیبة. أودع غرفتي بعینین مثقلتین بالدمع، في منظر أشبه بشخص یودع جثة فقیده. كنت ساذجة حین ظننت أن المسافات تطوى بالخطى، والیوم أدركت أن بعض المسافات لا تعبر إلا بنبض القلب؛ فالقلب لا یعترف بالخرائط أبدًا.
وبعد لحظات سلمت فیھا على نفسي وودعتھا، وصلت إلى ھذه المدینة لا أحمل حقائبي وحدھا، بل أحمل معھا أحلامي وأوھامي.
لا أحد في انتظاري، لا یوجد سوى مدینة صامتة، أو بالأحرى، لا أسمع لھا صوتاً، لا تعرفني، ولا أعرفھا.
علمتني الحیاة دروسھا حین بعثرتني التغیرات، أولھا أن الغربة لا تعني أن تفقد المكان، بل أن تفقد نفسك فیه. الغرابة تسیطر على كل مكان أراه، لیس لأنني لم أعتد علیه بعد، بل لأني لم أعتد على نفسي الجدیدة أیضًا. حاولت أن أبحث عني في انعكاسات النوافذ، في زوایا الشوارع، في ملامح العابرین، في الطاولات الباردة. أشعر برغبة كبیرة في الصراخ: "أنا ھنا!"، لكني لا أنتمي...
في الشارع، الناس یمرون، یتحدثون، یثرثرون، یضحكون؛ منظرھم ھذا أشعرني أنني مجرد عابرة مثقلة بالذكریات والمكان، لكنني جعلت تلك الرغبة تتلاطم داخلي كالأمواج التي لا تغادر البحر.
المكان القدیم لم یعد لي، والمكان الجدید لم یحتضن روحي بعد، لكني متأكدة حد الیقین، أني عالقة ھناك، حیث القاعات، رنة الجرس في كل ساعة، وجوه أحبتي، عالقة في الذكریات والأمكنة، لقد التھمتني، جعلتني ھشة أتطایر مثل أوراق الخریف.
وصلت المكان الذي سیحتضنني أنا وأحلامي وبعض خیباتي، بدایة اكتئابي، ودموعي أیضًا، طیلة ھذه الرحلة. عندما فتحت الغرفة، لا ھواء فیھا كأنھا لم تتنفس منذ زمن. أنظر وأتطلع، ربما أجد شیئاً یخصني، لكنني خسئت؛ فلا صورة معلقة على الجدار، ولا إحدى الروایات الكلاسیكیة موضوعة بحب على الطاولة، لا رائحة أعرفھا، لا شيء سوى الصمت الذي یخیم على المكان بالكامل. كنت أنتظر أن تتلفظ ببنت شفة؛ كأن تخبرني بأنھا ستصبح مكاني، أن تقول أي شيء، لكنھا بقیت صامتة، كأن الحروف أبت أن تخرج.
كانت ھناك نافذة صغیرة بحجم رغبتي في البقاء ھنا، أو أكبر منھا بقلیل. اتجھت نحوھا وفتحتھا، لا شيء جدید؛ الغرابة نفسھا، المدینة بالخارج تسیر بإیقاعھا المعتاد: سیارات، عابرون، ضحكات الأطفال، أضواء تتغیر، لا أحد يعلم بوجودي. أراقبھم من مكاني ھنا.
یا ترى، ھل أنا من دخلت عالمھم أم أنھم دلفوا إلى عالمي دون أن یشعروا؟ أغلقت النافذة وعدت إلى السریر، استلقیت ومشاعري تتناثر في الھواء، راحت الأفكار تتراقص كالفراشات الھائمة داخلي، تذكرت شیئاً توج مشروع أول ابتسامة لي في ھذه المدینة، تذكرت أن لي وجھة بالرغم من غربتي، وأنني سأواصل الطریق كطالبة تنھل من العلم، وكأستاذة متدربة تلتمس أولى خطواتھا، سأرتدي مئزري الأبیض لا كقطعة قماش، بل كرمز لرسالة، وصفحات تفتح أمامي كل یوم، وتلامیذ سأكون لھم نافذة على عالم یلیق بأحلامھم.
فحیاتي ھنا، اللغة والحروف...وفجأة وبدون شعور قاطع، بصیص الأمل ھذا، سؤال تناسل في فؤادي وجعل رأسي یشعر بمخاض ولادته: ھل سأعتاد على المدینة، أم أنھا ھي، من ستعتاد علي أولًا؟ .
مجلة فن السرد
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا