سر العبقرية عند الطيب صالح | حسن الباعقيلي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد التعليقات: 0 تعليق

 

الطيب صالح

سر العبقرية عند الطيب صالح 

حسن الباعقيلي

    

ولد الطيب صالح في قرية من قرى السودان. ونشأ بها صبيا، وأحبها يافعا، وتعلق بها مهاجرا. وكان إصراره على تضمين كل نصوصه القصصية والروائية شتى الصور التي تتبدى فيها الحياة في تلك القرية السودانية مدهشا وغريبا.

 فقد شمل كل مفرداتها وعناصرها حتى طغت، وحتى اعتبر بعض دارسيه أن نصوصه فصول في نص واحد، عموده بيئة القرية السودانية. وحتى أكثر منتقديه استعماله الملفت للهجة السودانية القروية في رواياته. رغم أنها ليس من اللهجات المتداولة في العالم العربي، والتي يسهل فهم معانيها بسلاسة مثل العامية المصرية مثلا.

  أعتقد أن واحدا من أسرار هذا الإصرار المدهش والغريب كان هاجسا يسكن الطيب صالح. تجلى أساسا في خوفه من الذوبان والتلاشي في البيئة الغربية، واضمحلال هويته السودانية التي تكونت في نشأته الأولى في القرية السودانية. فبقاء نبض القرية السودانية مشعا في نصوص قصصية وروائية هو تغذية مستمرة ومتجددة لنواة تلك الهوية التي لم يكن يرغب صالح،  بأي حال من الأحوال أن تنال منها الغربة فيفقدها.

    ولذلك يمكن القول إن المحرك الأساس الذي جعل الطيب صالح يبني نصوصه الروائية والقصصية على القرية السودانية بكل تفاصيلها وزواياها البادية والخافية، هو الخوف عليها من النسيان. إذ كان يريدها أن تبقى حية في قلبه، مشعة في وجدانه، حاضرة في ذهنه، مبثوثة في نصوص يمكنه الرجوع إليها لإنعاش ذاكرته وتجديد ذكرياته. وأظنه كان يشعر بالرهبة كلما مر عليه موقف زهير بن أبي سلمى حين وقف على ديار أحبته ولم يتعرف عليها إلا بعد لأي وطول توهم:

وقفت بها من بعد عشرين حجة     فلأيا عرفت الدار بعد توهم[1]

     لقد ظل الطيب صالح محبا لقريته، حالما باليوم الذي تسعفه الظروف والأحوال ليعود إليها. ولما تأخر ذاك اليوم ولم تتهيأ تلك الظروف، قرر أن يرسل إليها رسولين يتقاسمان معه نقاطا كثيرة. كان أحد الرسولين مصطفى سعيد وأما الآخر فكان "الراوي" في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"

     وإذا أمعنا النظر قليلا في هذين الرسولين أو الشخصيتين اللتين عاد بهما الطيب صالح من أرض الغربة، بدلا عنه، إن جاز القول، إلى السودان. نجد أن حلول مصطفى سعيد بالقرية كان في البدء نافعا. إذ ساعد الناس على ترتيب حياتهم الاجتماعية ومعاملاتهم الاقتصادية وفتح عيونهم على مكامن القوة فيما يملكون من الثروات والوسائل. غير أنه، واستجابة "لذلك النداء البعيد الذي لا يزال يتردد في أذنه[2]" لم يستطع أن يمكث بها طويلا. فكان رحيله عنها بداية لمأساة لم ير القرويون ولا سمعوا بمثله لا في الزمن السابق ولا اللاحق[3]. بينما أدرك الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" أن عودته إلى قريته كانت قليلة الفائدة وعديمة الجدوى باعتباره موظفا لا يقدم ولا يؤخر[4] إذ الفاعل الحقيقي فيها هو صديق طفولته محجوب، القروي الفلاح والذي تحول إلى "طاقة فعالة في البلد[5]"

     وكأني بالطيب يقدم بين يدي قريته عذره عن عدم رجوعه إليها وذلك مخافة أن يسبب وجوده بها مأساة أو أن يجد نفسه، حين يحل بها، عديم النفع والفائدة.

      فضل الطيب صالح ـ إذا ـ أن يبقى بعيدا عن قريته ويتخذ من الكتابة عنها جسرا يعبره إليها. إذ لم يجد لذلك وسيلة على ما يبدو إلا القلم، إزميلا ينحت به صورة قريته وينفخ فيها من عبقريته نفسا جديدا لتغدو بين عينيه حية نابضة بكل ملامحها وتفاصيلها وأركانها. وقد عبر عن ذلك في مقولة تنسب إليه حين قال: "أكتب لكي لأقيم جسرا بيني وبين بيئة افتقدتها"

   ومن تم فقد لا نجاوب الصواب لو خلصنا إلى أن هذا الارتباط العميق بالقرية السودانية شكل عند الطيب صالح أساس الابداع الروائي والقصصي، وسرا من أسرار عبقريته الإبداعية. 

وإجمالا، وإذا كان النقاد يشيرون  إلى أن من بين قواعد الكتابة الأدبية أن يكتب الأديب عما يعرف. فإن الطيب لم يكتب عما عرف فحسب، بل عما عرف وأحب. ولذلك أبدع.


[1] معلقة زهير بن أبي سلمى.

[2] الطيب صالح. موسم الهجرة إلى الشمال. دار الجيل، بيروت. صفحة 84.

[3]  الطيب صالح. موسم الهجرة إلى الشمال. دار الجيل، بيروت. صفحة 150.

[4]  الطيب صالح. موسم الهجرة إلى الشمال. دار الجيل، بيروت. صفحة 122.

[5] الطيب صالح. موسم الهجرة إلى الشمال. دار الجيل، بيروت. صفحة 121.


الكاتب حسن  الباعقيلي
الكاتب حسن الباعقيلي

مجلة فن السرد/ زوايا

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث