التجريب القصصي ( موضوعاته وعناصره ) في قصة
" تواز "
تتميز قصة " تَوَازٍ " للقاص المغربي السعيد السخيري ، وهي القصة الفائزة بالمرتبة الأولى لمسابقة مجلة فن السرد في دورتها الثامنة ، بحس تجريبي موسوم بالاختزال والتكثيف، من خلال نص قصصي يندرج ضمن القصة القصيرة ، وقد أفلح القاص في تضمين نصه العديد من الموضوعات والعناصر بشكل متواز دون أي إخلال أو إطناب أو إسفاف يؤكد مدى تمثله لمقومات هذا النمط السردي ( قصة قصيرة) ، والذي رغم قصر حجمه ونَفَسه تمكن من المزج بين هذه العناصر والموضوعات في نسق سردي إبداعي، حقق الكثير من مراميه الدلالية ، وأبعاده الرمزية والجمالية.
فالتئام موضوعات من قبيل التقابل والتوازي
والرؤية، بعناصر مثل الوصف ، والتشبيه في تأثيث لفضاء القصة عبر رؤى فنية عميقة
ناحتة مشهديات أكثر كثافة وإيحاء ، راسمة أفقا إبداعيا يتلاقح داخل بوتقته عنصرا
الفكر والخلق في ارتباط برؤى تروم التغيير والتجديد في شتى أشكاله ، ومختلف مناحيه
. وسنحاول في هذه الورقة مقاربة أهم موضوعات القصة من تقابل وتواز ورؤية،
وعناصرها من وصف وتشبيه.
ــ التقابــــــل :
ويتمثل في قول القاص : " هو يجلس هناك
، وأنا أجلس هنا . يمد الكتاب إلى ما يستطيع رؤيته . وأنا أمد يدي إلى الكتاب الذي
أحمله لأقلب الصفحة " ، لتنتأ أطراف التقابل في ضميري : هو للغائب، وأنا للمتكلم، واسمي الإشارة : هنا الدالة على القرب
، وهناك الدالة على البعد ، ثم مد الكتاب المرتبط به ( هو) إلى مكان تتعذر رؤيته ن
بينما أمد الصادر عن ضمير المتكلم ( أنا ) يدي إلى الكتاب الذي أحمله أي القريب
مني بشكل حميمي ، أتصرف فيه بكامل إرادتي ورغبتي ( لأقلب صفحاته ).
ــ التوازي:
وهو ما تتم فيه الموازاة بين أطراف مختلفة ، إن لم نقل متباينة ، كالشاب والطفل ، والغضب والعنفوان لكن بتوصيف مثقل بمجازية تعبيرية لافتة تتوازى فيها قبضة الشاب المرفوعة مع يدي الطفل الممدودتين ، وما تفتحه عناصر الوصف والتصوير من آفاق دلالية ورمزية ، فقبضة الشاب المرفوعة عبارة ذات مناحي تأويلية متعددة ؛ لأن القبضة تدل على القوة ، وتشير إلى أقصى درجات الجاهزية والاستعداد سواء على مستوى الهجوم أو الدفاع والمقاومة ،وارتباطها بالشباب كمرحلة عمرية ، وما تتضمنه من يفع و قوة وحماس موازاة مع الطفولة وما تزخر به من براءة وتلقائية لا تتورع عن الطلب ( يدي الطفل ممدودتين)، وما يطبع فترة الشباب من نزعات غضب عن وضع لا يحتمل المهادنة والإذعان بدل الرفض والتمرد والعصيان ، وما قد ينجم عنه من أساليب و طرائق تعبيرية ك ( شر ر الغضب في عينيه) توازيا مع تطلعات الأطفال النابضة عنفوانا ناعما كمافي قول القاص : " مع العنفوان النابض في نظرة الطفل ".
ــ الرؤيــــة :
التي تتمظهر عبر العديد من التجليات التي
تستغرقها مراحل عمرية مختلفة تتوزع بين الطفولة
: " رأيت طفلا صغيرا يركض رفقة جمهرة من الأطفال خلف فراشة... "
في تصوير للحظات لهو تنفتح على شتى الاحتمالات والتأويلات عبر أسئلة تظل عالقة في
أفق افتراضات متعددة : هل يمسك الأطفال بالفراشة ؟ أم يكتفون فقط بالتمتع
بمطاردتها ؟ أم يغريهم تعقبها فقط ؟ وقوله : " رأيت بعدها فتى خبت جذوة نشاطه وهو يمشي ويعود من بيت
منعزل في القرية ومدرسة في أقاصي الجنوب . " حيث يدأب
الفتى على الانخراط في حركية محدودة بين بيت ( منعزل ) ، ومدرسة نائية ( في
أقاصي الجنوب ) ، مما يحد من جموح نشاطه ، ويصيب لهيب أواره بالخمود أمام ضيق
الآفاق ، ومحدودية أطرافها (قرية ، مدرسة نائية ) ، رؤية تبلغ مدى قوتها ، وأوج غليانها
مع شاب يمتشق حركات احتجاج وغضب تعبيرا عما ينشده من تغيير ، وما يأمله من تبديل :
" رأيت شابا غاضبا " ، لينتقل إلى اجتراح حركة تختزل أعلى مراتب
الاحتجاج ، وتعكس أسمى مظاهره ومعانيه ( يرفع قبضته) استعدادا لأي نوع من المواجهة، مع ترديد ، بشكل جماعي، شعار يصدع بالجهر بالتمرد على فساد الأوضاع قصد تغييرها
: " الشعب يريد ...! " شعار يظل منفتحا على شتى أنماط
التغيير بكل الوسائل والأدوات المتاحة والممكنة دون تردد أو تراجع أو نكوص.
هذه
التيمات والموضوعات التي يتم التعبير عنها من خلال عناصر سردية أهمها الوصف كما في
: " كان شابا وسيما لولا شعره المنكوش كجزرة صوف ، وشاربه الأشعث ولحيته
المهملة منذ زمن " مقابل وصف يعكس الأناقة ، ويصور مظاهرها : " بينما
كنت أنيق المظهر ، حليق الوجه ـ على الأقل هذا ما تقوله المرايا المثبتة على صواري
المقهى ـ " وهو وصف يكرس تيمة التقابل بين مظهر شاب ، رغم وسامته ،مهمل لشكله
من حيث الشعر، والشارب ، واللحية ، وآخر أكثر أناقة كما يوحي بذلك مظهره . هذا
الوصف المخترق بعنصر تشبيه : " أحس أن المعاني تهرب من قبضة فكري كماء ينزلق
من فرجات الأصابع. " في تصوير لانفلات المعاني من سلطة الفكر ورقابته . وفي
تعبير مثل : " ابتسمت بمرارة كجندي أحس بأن قدمه تطأ لغما " في تصوير ،
عبر التشبيه ، لحالة شعورية تولد إحساسا
تلقائيا صادرا عن مشبه به في ورطة محفوفة بخطورة غير محمودة العواقب ( جندي أحس
بأن قدمه تطأ لغما) هذا اللغم قد يتفجر ويودي بحياة الجندي ، وقد لا يحدث ذلك فينجو
من موت محقق .
ولعل ما يميز قصة " تواز " للقاص
المغربي السعيد السخيري هو حسها التجريبي عبر تيمات ارتبطت إلى حد التداخل
والتواشج، بعناصر سردية كالوصف المخترق بالتشبيه ، فضلا عن توظيفه ، بشكل مميز
ومعبر ، لموضوع التحول الذي انتقاه من حقل الهندسة حيث يقول :" غصت لبرهة في
التحولات التي حدثت في تاريخ الهندسة ، وفي العبور العسير من الهندسات
الإقليدية إلى الهندسات اللا إقليدية ، مع
كل التغيرات المجتمعية التي رافقت ذلك العبور . " وهو نهج إبداعي انفتح على
مجال الهندسة وتحميله لمعاني أحدثت تغييرات مجتمعية من خلال مراحل انتقالية مرت
على العبور لترسيخ إواليات تحول خلخل بنية المجتمع ، ورج ثوابته ومواضعاته لإرساء
لبنات تحول فارق.
يمكن الإقرار في الأخير بالطابع التجريبي
الذي تنطوي عليه قصة " تواز " بما وظفته من تيمات وموضوعات ، وما توسلت
به من عناصر قصصية، وأدوات سردية .
مجلة فن السرد/ قراءات ودراسات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا