recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

القصة الفائزة بالمرتبة الأولى I تَوَازٍ I السعيد السخيري


السعيد السخيري
القاص: السخيري السعيد

 

هو يجلس هناك، وأنا أجلس هنا. يمدّ يده إلى ما لا أستطيع رؤيته، وأمدّ يدي إلى الكتاب الذي أحمله لأقلب الصفحة. أخمّن : " إنه يقلدني"، لكن كيف ذلك، فقد حرك يده قبل أن أفعل وقلب صفحة كتابه الوهميّ قبل أن أفعل!

كان شابا وسيما لولا شعره المنكوش كجزة صوف، وشاربه الأشعث ولحيته المهملة منذ زمن. بينما كنت أنيق المظهر، حليق الوجه -على الأقل هذا ما تقوله المرايا المثبتة كأحزمة على صواري المقهى-، ألبس قميصا يشع بياضه إذ يدفع أشعة الشمس المنعكسة على الزليج الصقيل.

كان بإمكان رواد المقهى أن يُبصروه وهو هناك؛ في الجهة المقابلة من الشارع، مقتعدا الطوار، محدقا في كتاب وهمي يمسكه بين يديه. قلت لنفسي وأنا أنظر إليه: "إنه يقرأ كتابا عميقا غائر المعاني" ، ثم عدت إلى الكتاب الذي بين يدي، غصت لبرهة في التحولات التي حدثت في تاريخ الهندسة، وفي العبور العسير من الهندسات الإقليدية إلى الهندسات اللاإقليدية، مع كل التغيرات المجتمعية التي رافقت ذلك العبور. أحسست أن المعاني تهرب من قبضة فكري كماء ينزلق من فرجات الأصابع، فدخلت في حالة من الذهول، في ابتعاد عمّا حولي، محاولا الإمساك بتلك المعاني الزلقة المتفلتة، أسطح كروية وأخرى مقطعية. تمتمت: "ريمان، أيها اللعين، كيف لمستقيمين متوازيين أن يتقاطعا؟!"

انتبهت من شرودي ذاك، لأجده هو الآخر شاردا، تأملته محاولا أن أنسج من البصيص النوراني الذي ينبثق من عينيه صورة ممكنة لما يحدث في دواخله.

رأيت طفلا صغيرا يركض رفقة جمهرة من الأطفال خلف فراشة، بيدين ممدودتين وضحكات ممطوطة وعنفوان يسطع من نظرته البريئة.. رأيت بعدها فتى خبت جذوة نشاطه وهو يمشي ويعود بين بيت منعزل عن القرية ومدرسة في أقاصي الجنوب.. ثم رأيت شابا غاضبا يرفع قبضته عاليا مرددا مع باقي الشباب "الشعب يريد...!". ابتسمت بمرارة كجندي أحس بأن قدمه تطأ لغما، ابتسمت في يأس لتوازي قبضة الشاب المرفوعة مع يدي الطفل الممدودتين، ولتوازي شرر الغضب في عينيه مع العنفوان النابض في نظرة الطفل.

تسرب شيء ما إلى حنجرتي فسعلت، وأيقظني سعالي من حالة الشرود تلك، عندما نظرت إليه كان هو الآخر ينظر إلي نظرة عميقة، كأنه يحاول أن يسبر أغوار دخيلتي. لم يطل لقاء نظرتينا، فقد صرخ فجأة : " لم تكن فراشة تلك التي كنا نطارد، لكن سذاجتنا الطفولية جعلتها كذلك.. كانت مجرد قصاصة ورق ملونة!". كرر مرة أخرى :"كانت مجرد قصاصة ورق ملونة!"

عندما وقف، وجدت جسدي يسايره ويقف رغما عني، حتى إنني أمسكت بياقة قميصي كما أمسك بياقة قميصه، وجذبنا معا بقوة إلى أن طارت أزرار القميصين بعيدا محدثة أصواتا خافتة لا أحد سمعها. ثم لا شيء.. مجرد ظلام ثقيل ابتلع الوجود!

حين عدت إلى وعيي، كنت ممددا قرب الرصيف، كانت هنالك أقدام كثيرة تتحرك حولي، وأصوات خافتة 

يقذها الواقفون صوب بعضهم البعض:

-        " مسكين! ماذا حل به؟"

-        "عادي، يحدث دوما أن يدخل في نوبات هستيرية تنتهي بالإغماء"

-        "انظر إلى حاله، أهو مجنون؟"

-        "يقال إنه فقد صوابه بعد أن أضاع خيط الأمل الذي يربط الداخل بالخارج!"


القصة القصيرة الفائزة بالمرتبة الأولى لمسابقة مجلة فن السرد الدورة 8



عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

مَجـَـــلَّةُ فَـــنِّ السَّــــرْد