سرّي للغاية - لا يُفتح إلا من طرف القائد الأعلى سليم | أميمة المسكيني

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
مجلة فن السرد


تنويه : هذا النص سُطّر من قبل إنسان لا يملك إلا علبة سجائر وفنجان قهوة والكثير من الشوق و الإنتظار.

إعلان براءة الذمة : هذا النص من واقع الحياة، وأي تشابه في الأماكن أو الأحداث أو الأسماء، فهو ليس محض مصادفة..أبدا.

العاشرة صباحا - يوم خميس هادئ

في مكان ما حيث تمطر الذاكرة فجأة،

في مدينة لازالت تشبهك...

هنا الرباط - حيّ الفتح.

كان جالسًا في مكتب منزله، يُدير إمبراطوريته عن بُعد، يُنهي مكالماته واحدة تلو الأخرى، كأنها فصول مسرحية لا تنتهي. عمله بات يسيرًا؛ يباشره  من حصنه الحميم الشاهد على كل نزواته العابرة.

 على يمينه آلة قهوة، وكأس زجاجي قد أهدته إياه بعد أسبوعهما الأول. إلى يساره في ركن يتيم، أول صورة لهما وأول محادثة.

 أرادت أن تُقيم حوله أسوارًا من أشلائها، وأن تُحيل العالم بعدها فراغًا لا يُملأ. لو كان بوسعها أن تخلق ألف نسخة منها لفعلت؛ لوضعت واحدة في سيارته، وأخرى أمام حاسوبه، ووزّعت الباقيات عند ملتقيات الشوارع وأبواب الحانات والمقاهي، وفي محطات الأداء والبقالات وعند بائعي الخبز المتجوّلين في الأزقّة... لم تكن لتتركه يتنفس هوى غير هواها، ولا أن يُناظر سواها.

جاءه طرقٌ خفيف على الباب - صوت خجول في زمن صاخب.

وقف ساعي البريد يحمل ظرفًا باسمه، قبل هذه اللحظة كان يظنّ هذا الكائن منقرضًا لا وجود له إلا في خيالات العشاق الحالمين والأبناء المغتربين، حين كانت القلوب تُرسل نزيفها على أوراق معطّرة، قبل أن تبتلعها شاشات الهواتف.

لكنها هي…

بمظهرها الحديث وتحليلاتها السياسية المثيرة، لا يمكنها إلا أن تكتب إليه عبر البريد. مشت نحوه أول مرة صادفها وفي أنفاسها ظلّ حضارة غابرة، وفي عينيها توهّج عبق التاريخ...لجسدها رائحة القصائد وفي ريقها استطعم معزوفات وألحان صامتة. 

مذ أبصرها لم ينته من الإنبهار منها؛ مذهلة، معجزة، وكأنها أسطورة نجت من بين صفحات رواية خيالية، صامدة بشموخ مهيب تقاوم وحشة الزمن وتكذّب بؤس الحياة.

تدهشه عبثيّتها في الحياة، وجنوحُ مشاعرها، وذلك اللاشيء الذي يربطها بكل شيء ولا أحد، تغريه بلا جهد منها، ينتشي بمراقبتها تمارس طقوسها كل يوم؛ تتسلّل من الفراش بخفّة، تُعدّ قهوتها بعناية وخبرة، ثم تجلس قبالة النافذة تحمل فنجانها الأصفر بين يديها، وتتمايل بثبات على مقطع أغنية راي لا يعرفها سواها...كلما ناظرها ضحكت بكل ألم وأمل. كل ما تفعله في يومها – حركة، كلمة، أو حتى صمت – تحسبه لوحة فنية، أو مشهدًا يُعرض على خشبة مسرح، أو لحنًا صامتًا لا يسمعه إلا قلبه. ربما هذا ماشده إليها...كانت غريبة بطريقة مدهشة وعادية حد التعقيد.

قديسة ؟ جنية ؟ وهم أم حقيقة ؟

كل هذه كانت تخمينات…مجرد تخمينات.

لكنها بدأت تتلاشى وهو يراها تتجلى أمامه شيئًا فشيئًا، مثل حلم يأخذ شكله. غريبة، لكنها أكثر إنسان قريب لإنسانيته قد عرفه.

 يتذكر سخريتها حين كان يتوسد فخذها ليلتهما الأولى ...وقد قال لها : «أنتِ إنسانة» فأجابته : « لكم تجيد الغزل يا رجل… لم يسبق لرجلٍ أن تغزّل بإنسانية امرأة قبلك ».

مدرك اليوم تماما أن سحرها كله يكمن في إنسانيتها ذاتها؛ ببساطتها المعقّدة، بعفويتها وتحفّظها، بعنفوانها وخضوعها، بضعفها الجلي وقوّتها الخفية، بكل خطيئاتها وزلاتها و استفزازاتها.. لم تُخلق لتكون إلا إنسانة كاملة، ناقصة بالكمال. تذكر يوم رحيلها حين التفتت لتسأله سؤالا وحيدا: «لِمَ؟ أو لِياه؟» كما كانت تحب أن تستفسر.

اليوم أجيبك : « ناقصة أنتِ يا امرأة… ناقصة بكمالك. كمالكِ هذا أظهر ضعفي، وإنسانيتكِ عرّت شكوكي.»

وقف مشدوهًا، ممسكًا الظرف بين يديه كمن يحمل سرًّا قديمًا، مختومًا بالطوابع وعنوانه. لم يتمالك نفسه؛ ضحك بصوتٍ عالٍ، فقد كانت تفاجئه دائمًا بفكرة جديدة تليق بفردانيتها، ورجلٌ مثله مثقل بالخيبات، كم هو صعبُ إضحاكه. 

لطالما فعلتها كأنها خُلقت فقط لانتزاع ضحكته… تلك التي تُفرج ثغره على سعته مع انحرافٍ طفيف لشفته العليا نحو اليسار. ضحكته تلك تعرفها جيدًا؛ تخرج من خبايا قلبه.. تنقطع أنفاسه للحظة، كأنه يقتنص من الحياة استراحة قصيرة ثم يعود لينظر إليها ويقول: «من أي أرضٍ أتيتِني يا امرأة؟». حينها يبدو شهيًّا كطفلٍ تداعبه أمّه… ضحكته تلك تدفئ قلبها، قلبَ أم.

نجحت كما في المرّة الأولى. لم ينسَ تلك اللحظة حين اقتلعت منه ضحكة بعد دقيقة وخمسين ثانية فقط من لقائهما. وما زال يجهل أنها أقسمت في سرّها ألا تكفّ عن جرمها يوما.

فتح الظرف، ليجد داخله ظرفًا آخر كُتب عليه بخطّها العربي المميّز: «سِرّي للغاية - لا يُفتح إلا من طرف القائد الأعلى سليم ». فازت… نجحت في اللعب على وتر فضوله، وفي تدليل غروره.

……….

إلى قائدي الأعلى ورئيس أركان قلبي،

الحاكم بأمر العاطفة... الممسك بخرائط الرغبة

والمسيطر على مواطن الشهوة في جسدي

سيدي القائد..

أكتب إليك من أرض تاونات البعيدة، من قلب الميدان حيث المعارك مستمرة وعدوي الغربة والبعد عن حضنك، سلاحي صبري وذخيرتي الإنتظار. محاصرة بين شجر الزيتون والحنين إلى قلبك ذو العين الواحدة. الشوق يهاجمني من كل الجهات سيدي ونيران جسدي مشتعلة لا يطفئها سوى ماء رجولتك.

أتمنى أنكم بخير.. أتساءل هل فعل الشوق بك شيئا مما فعل بي شوقي إليك. لقد وصل إلى مسمعي أن الأمطار زارت العاصمة البارحة.. أما هنا، فالسماء محتقنة بالغيوم، صامدة مثلي، معلنة الحداد، ناكسة الأعلام، لكن لم تبكي فقيدها بعد.

أكتب عنك ولك على ضوء شمعة يتيمة. هنا لا أنباء إلا أني أقاوم غيابك، أنا الجندية الجائعة لغزواتك. المدافع خلفي، وصورتك أمامي… تدفعني إلى التقدّم ..تعلّمني بسالة العاشقين.

لا أدري كم مرّ عليّ في الأسر… متى غادرتك ؟

لكني على عهدي باقية...لم يهزمني عدو، لم تنقصني شجاعة، ولم أساوم على قضيتي.

أنت وحدك جيشي ووطني، سلاحي وغنيمتي، سمائي وأرض أجدادي.

أيها القائد على قلبي .. 

المهمة شارفت على النهاية. قريبًا سأنتهي من سقي جميع حقول الزيتون وترميم أسوار المدينة. سأصل قريبًا إلى العاصمة، وأقسم أن لقائي بك سيكون بمثابة فتح مدينة مغتالة بعد حصار طويل؛ أعود عودة غريق إلى بره، والشهيد إلى وطنه. إلى أن يحين الموعد، أنا على العهد.. جندية ثابتة، مخلصة لمملكتك، تحرس بوابة الشوق وتنتظر كلمة السر.

عدني فقط ألا تضحك… فأنا أكتب بجدية محارب، وقلب طفلة، وحسرة منفي، وبلهفة عاشقة تشتاق إلى طعم القهوة وملح شفتيك.

أُرفق مع هذه البرقية أوراق زيتون، دمعة يتيمة، ورائحة احتراق قلبي.

تصبح على خير آلاف المرات،

اللعنة آلاف المرات على ليل غابت عنه النجوم ...

غبتَ عنه أنت.

جنديتك المخلصة، المنتظرة لأمر العودة… لرصاصة الرحمة.

………..

ضحكته التي أمسك بها رسالتها تحوّلت إلى تنهيدةٍ طويلة.

أيقن خسارتُه أعظم امرأةٍ مرّت في تاريخ حياته.

حبيبتي،

هزمتُ مرّات أمام الشوق.. أمام الشك.

زارني الحنين في غيابك وغمرتني الكآبة من جديد.

وحيدٌ بدونك…عارٍ الآن تماما أمام موجة فقد قارسة،

عاجز عن البوح بأن الملابس التي تحيكينها لي كل شتاء لا تكفي؛

أشعر بالبرد في كل الفصول مذ رحلتِ ..

والجليد بداخلي أقوى من أن يقاوم بالصوف وحده.

تعالي .. ف

الرسالة مشفّرة

أهي وعدٌ بالعودة أم انتظارٌ لعودتي؟

جموحها وغروري لا يلتقيان..

 لم نُخلق لهذه الحياة، ولا لهذا الزمان

أتيتُك باكرًا جدًّا يا امرأة .. وأتيتِني متأخرةً كثيرًا.

أرضكِ لم تُدَس، اقتحمتها لأدنّسها وأقتلع عشبها بلا رحمة..

أما أرضي أرض بور، رويتها وأبت أن تثمر لك.

لو كنا في الحب عذارى، هل كانت الأرواح ستلتقي؟

تأتين إليّ بلا كبرياء، وأرتوي أنا من شهد جسدك بلا خوف ؟

توقّعين رسائلك بجندية مخلصة…

لو تعلمين مكانتك!

أنتِ الجندية والقائدة، الذخيرة والفخاخ، المنتصرة والشهيدة.

أنتِ السيف والدم عليه..

تحملين بيدك التفاح المحرم والعلم الأبيض.

يا امرأة، وحدها نزعتِ عنّي قبّعة القائد…

أنا الجنديّ في معركتكِ الآن،

فمُري؛ عبدُكِ يأتيكِ خاضعًا ذليلًا.

أنتِ سِلمي وسلامي وغايتي،

وطني وملجئي ومخبئي.

أنتِ معركتي… وإنا لا نحبّ الخاسرين.

فيكِ أحيا وأفنى،

وإن قتلني حبّكِ، أيتها العرّافة،

فليكن…

لتتعالى الزغاريد،

وتُحلّق العصافير فرادى،

فلتخضّب النساءُ أيديهنّ،

ولْيُدثَّر نعشي بغطاء رأسكِ.

شهيدُ حبّكِ لا يُقتل،

بل يُبعث حيًّا في جسد طائرٍ نادر،

يهديكِ ريشته الأخيرة،

ومن دمه… كوني أعظم كاتبة.

أحبّكِ، أيتها الجندية…

أحبّكِ يا امرأة،

فاصفحي.

مجلة فن السرد| مشاتل



التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث