الرحلة وهاجس التغيير في كتاب "رحلة الأنوار" للدكتور عبد الرحيم الخلادي | كمال العود

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

  

مجلة فن السرد

مجلة فن السرد


تسمية "أدب الرحلات" تدل على أنه نوع أدبي يتميز بلغته وبنيته وأساليبه الفنية، ويتناول تصوير رحلات قام بها الكاتب، حيث تتحول المشاهد والأحداث إلى نصوص أدبية تنقل انطباعاته وملاحظاته بصورة دقيقة ومؤثرة.

أدب الرحلات –اصطلاحا- هو مجموعة نصوص التي تتناول انطباعات الكاتب عن رحلاته لبلدان ومناطق مختلفة، وتضم تسجيل دقيق للمناظر، والعادات، والسلوك، وسرد مراحل الرحلة كاملة أو متفرقة.

وقد اشتهر العرب بأدب الرحلات، ومن أبرزها رحلة ابن بطوطة. ويعد أدب الرحلات إلى جانب قيمته الأدبية الترفيهية مصدرا للدراسات التاريخية المقارنة، كما يدرج علماء الأدب المقارن أدب الرحلات ضمن أقسام الأدب الحديث.

فن الرحلات عند العرب فن عريق يمتد بين الدراسة السردية والحضارية، ويجمع في بعض نصوصه ملامح السيرة الذاتية بسبب طبيعة التجربة الذاتية التي تكتشف عنها الرحلة. يظل هذا الفن مشوقا بفضل رؤيته المتميزة، وغرابة المشاهد، ومتعة القراءة.

تزخر كتب الرحلة بالعديد من المشاهد التي نالت اهتماما واسعا من القراء، نظرا لما تحوي من عناصر جذب وإبداع، وأسلوب سلس بعيدا عن التعقيد العلمي الجاف، يمزج هذا الأسلوب بين السرد القصصي والوصف الفني المرتبط بالواقع.

كتاب "رحلة الأنوار" للدكتور عبد الرحيم الخلادي، الصادر عن دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع بالرباط، سنة 2023، وهو حصاد لمجموعة من التجارب والتنقلات والأيام، فما يقدمه الدكتور من مشاهد لرحلته، ليس فصولا في كتاب، إنما هو رحلة عبر الزمان والمكان، رحلة في مجال فكري ثقافي، وتجدر الإشارة أن الكاتب استطاع أن يجعل القارئ يشاركه الرحلة، فعاش معه أجواء الرحلة بجميع مراحلها منذ البدء حتى النهاية، وقد استطاع بذلك نقل الرحلة من عالم الواقع إلى عالم النص.

فالكاتب عبد الرحيم الخلادي محب للجولة والرحلة بكل أشكالها وأنواعها، منذ صغر سنه، يستمد من خلالها الحماسة وتتجدد الأحلام "كنت، كلما ضاقت علي الأرض بما رحبت، وأنت النفس تحت وطأة الجهود والمصاريف ومستلزمات البحوث وكثرة المحاضرات، خلال دراستي بالسلك الثالث، نهاية القرن الماضي،...أشق الحجب والستائر، وألج عبر الفضاء المحبوب، فيعود دبيب الروح إلى مسارب الجسد، مذيبا معه كل المنغصات ..." ص 09.

قراءة "رحلة الأنوار" فعلا تجربة أدبية ممتعة، يحس معها القارئ بالمشي جنبا إلى جنب مع الكاتب، ويلمس تفاصيل مشاعره وطموحاته وخيباته. فالخيبة الأولى تجلت في: الفساد الذي ينخر جسد الإدارة المغربية " فإذا كان ناقما على المغرب فلن يتذكر إلا الفساد الإداري، والفساد الانتخابي، وتطور آلياتهما، والأجساد المنهكة اللاهثة على أبواب المستشفيات...، والملايير المهدورة في مشاريع لا فائدة منها، والتلاعب في الصفقات، ونهب المال العام، والتهرب من الضرائب" ص 22.

أما الخيبة الثانية تمظهرت في التعليم الجامعي ومظاهر الفساد " كم تفجرت من فضائح داخل الجامعة المغربية، ليس أقلها ما يتعلق بتوظيف أساتذة التعليم العالي، شكايات بين أيدي العمداء والرؤساء، وأخرى في المحاكم" ص 66 ، والصواب كما جاء على لسان صديقه ابن المبارك – أستاذ بجامعة السوربون- " ليصل إلى الشفافية المعتمدة في انتقاء الأساتذة، وصيغ ترقيتهم، وشروط فتح الماسترات، والتي تحترم المقاييس العلمية والحاجة الاجتماعية، وتتقاطع بقوة مع التوجه الواضح للدولة والحكومة" ص 70.

والخيبة الثالثة تجسدت في تردي الخدمات والتي تؤثر سلبا على سيرورة المرفق العمومي وجاء بمطار المسيرة بأكادير مثالا حيا على سوء الخدمات "فضاء معظمه مكشوف للشمس والغبار والريح والضجيج والقلق. طعنة غادرة في ظهر السياحة وغيرها" ص 16. 

في حين يصف تعامل المسؤولين بمطار أورلي فرغم تواجد الاصلاحات إلا أن تعاملهم راقي ومسؤول مع المرتفقين " مر كل شيء بسلاسة وتناسق جعلاني أحقد على أغلب مسؤولينا لما يطرأ طارئ أو يحدث حادث يربك جانبا من محطات السفر وتفاصيله، إذ لا وجود لمخطط تدبير المخاطر" ص 27.

أما طموحه الأول برز في رغبته الشديدة في إعادة الاعتبار للبعد العمراني بالمؤسسات العمومية خصوصا المدرسة العمومية " لذلك تدخلت خلال هذا الاجتماع المشؤوم ودعوت إلى استحضار الفن المغربي، مبينا انعكاس الأمر على الناشئة وتربيتهم" ص 57.

وطموحه الثاني يتجلى في مبدأ بناء دين الوسطية والاعتدال في وجه التطرف والغلو فقال الكاتب عن صهره " فهو الذي زودني بأولى أدوات التدين الحق، فتح لي خزانته الدينية والصوفية والأدبية، وعلمني الكثير من الأوراد، وأثر في بشخصيته المتسامحة الوسطية" ص 30. والابتعاد عن التطرف الذي لا شك له نتائج سلبية على الفرد والجماعة من خلال العيش على وتر الشحناء والقلق والتهافت.

أما طموحه الثالث يتمظهر في بناء القيم حيث يرى الدكتور أن من بين الأعطاب التي يعيشها التعليم والتربية هو تراجع اهتمام المسؤولين بترسيخ قيم المواطنة وغيرها لدى النشء " فالعطب عندنا في المحرك، والمحرك هو القيم" ص 36، " المواطنة أم القيم. والقيم هي نسيج الهوية" ص 48، و "المواطنة إكسير القيم العابر لكل الأزمان" ص 48. وكحل لذلك يرى الكاتب أن على المسؤولين أن يكونوا إسوة حسنة لمرؤوسهم " حتى يتشرب الجميع تلك القيم بالقانون والممارسة " ص 49.

ومن هنا وما دام الكاتب مغربيا حرا فلا غرو أن يحضر الهم الجمعي العربي في الرحلة، فراح يعقد مقارنة بين علاقات الدول الأوربية فيما بينها والتي تتسم بإقامة علاقات اقتصادية قوية " لقد طووا خلافاتهم، ونسوا مظالمهم وحروبهم، ونفوا صراعاتهم إلى الأبد" ص 28.

في حين العلاقات العربية تتسم بالمد والجزر رغم الخصائص المشتركة (تاريخ/ لغة/ دين) إلا أنها تتميز بالتنافر والصراع " أما في بلداننا فهناك خمس دول حاصرت أختها السادسة بقرار مزاجي" ص 28، " هناك دولة أغلقت الحدود على جارتها الشقيقة، ومنعتها من الملاحة الجوية فوق أراضيها، وظلت تبذل الغالي والنفيس من ثرواتها وسياستها الخارجية من أجل تغذية صراع مفتعل يتم بموجبه خلق دويلة جديدة " ص 29.

في خضم الرحلة لا يجد عبد الرحيم بدا من المقارنة بين الأمكنة، إنها مقارنة تفرض نفسها نظرا للهوة الشاسعة بين الهنا والهناك، يقول الكاتب " كل مسؤول رهين بالمسؤولية التي نذر لها. وكل راع مسؤول عن رعيته...هذا هنا في فرنسا" ص 48 ويقول أيضا " فالمكتب ليس بتاتا كما هو الحال عندنا، إذ لا يعطي التراخيص لإقامة المشاريع بطريقة عشوائية، أو بالعلاقات والرشاوى، بل يتدارس معك بكل وضوح جدوى المشروع، وميزانيته، والموقع المقترح..." ص 55.

ودائما في ظل المقارنات يرى الكاتب أن ما يوحد الشعوب هي الأساطير الخالدة في الوعي الجمعي لكل شعب وتتقارب فيما بينها رغم اختلاف الرقعة الجغرافيا وهنا جاء الكاتب بمثالين "سيدة القديسة بباريس" "لالة عائشة البحرية" "أبي شعيب" بالمغرب.

تنتهي الرحلة لكن متعتها تبقى عالقة بالذاكرة، وهذا ما دفعني لقراءتها أكثر من مرة، حيث تتجدد متعتي مع كل قراءة، ويتأكد أن السفر هو مصدر قوي للإلهام والكتابة.

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث