على خشبة المسرح أكون فارسًا أسطوريًا، حصاني يضرب الأرض بشرر، ودرعي يتلألأ كقطعة ألماس. الأضواء تلمع فوق وجهي، وتكسو جسدي بوهجٍ يشي بعظمة أبطال الأساطير. العيون مسمّرة عليّ كأنني الخلاص المنتظر، وقلوبهم تخفق مع كل حركة، وكل هتاف يكاد يرفس الهواء من شدته. ألوّح بسيفٍ عظيم يشقّ الهواء نصفين، وأقاتل أعداءً من ورق، أرفعهم وأطرحهم واحدًا تلو الآخر، ثم أرتفع شامخًا فوق جثثهم الوهمية، أشعر بالقوة، وكأنني أصبحت جزءًا من حكاية أسطورية تُروى على مرّ العصور.
الضوء ينعكس على درعي، والعرق على جبيني يشع مع بريقه، الحصان يتحرك باندفاع كما لو كان حيًّا، وكأن كل شيء حولي خُلق ليشهد مجدي.
تتعانق قعقعةُ السيوف مع هدير الحشود، كأن المَوْقِعَةَ بطنُ بركان، والنبض يتسارع في صدري... كل خطوة على الخشبة تمنحني شعورًا بالخلود، أتعرف على نفسي هنا، ليس كما أنا في الحياة الواقعية، بل كما يحق للفارس الأسطوري أن يكون: شجاعًا، لا يقهر، خالدًا في لحظة انتصاره.
لكن ما إن تهوي الستارة ويبتلع الظلام الأضواء، حتى يتبخّر الحصان والسيف والدرع كأطياف مسرحية عابرة، أعود راجلًا، أجرجر حقيبتي المهترئة عبر زقاق رطب، أتنفس رائحة الرطوبة والعفن التي تتسلل من جدران المبنى القديم، أضع قدمي على أرضية باردة، وأفتح باب غرفة ضيقة لا يسكنها سوى العفن والظلال، ألقي جسدي المنهك فوق حصير مثقوب، وأمدد قدمي في فراغ الغرفة الباردة حيث لا حصان ولا مجد، فقط صمت يبتلع أنفاسي، أشعر بالفرق الهائل بين ما كنت عليه على المسرح وما أنا عليه الآن، وأفكر في هشاشة الأحلام التي يتركها الواقع.
الليالي تتوالى، وكل ليلة تتكرر على خشبة المسرح، أرتدي درعًا آخر، أرفع سيفًا آخر، وأقاتل أعداءً آخرين من ورق. الجمهور يصفق، والمخرج يهلل فرحا، ويهمس لي بين الاستراحة والأخرى: "أنت الأفضل". لكن حين أنصرف خلف الستار، تتبخر الأسطورة، ويظل الواقع كئيبًا وثقيلاً، يلتصق بكل جسدي كما لو كان جزءًا مني لا يمكنني الخلاص منه. أجرجر قدميّ في الأزقة، أستقبل كل صباح على جدران الغرفة الضيقة، وأتساءل إن كان الفارس الذي كنت عليه يومًا ما سيعود إليّ يومًا، أم أنه سيظل محاصرًا بين أنفاس الجمهور والستار.
وفي الليلة الأخيرة، حين انتهى العرض، صافحني المخرج مبتسمًا وقال: "أحسنت، انتهت البطولة". ثم مدّ يده بكرم: "خذ السيف معك، فهو لك". حملت السيف الخشبي، شعرت بثقله يضغط على يدي. وضعته جانباً، ورحت أراقب الظلال تتراقص على جدران الغرفة الضيقة، أستمع لصوت الريح الخفيف يتسلل من الشباك.
حين غفوت، لم أكن على الخشبة بعد الآن، ولا في الغرفة الضيقة، بل امتطيت حصانًا يركض بي عبر ظلال الليل والضباب، والهواء يصفع وجهي بقوة، والسيف يلمع مع كل ضربة عابرة للهواء، لا أحد يشاهدنا، فقط أنا والحصان والليل المفتوح. ركضنا بلا نهاية، والمدينة تتلاشى خلفنا، وكل شيء يبدو ممكنًا، وكل شيء ينبض بالحركة، بلا توقف، بلا قيود.
مجلة فن السرد | مشاتل


إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا