قلب أصابه الصدأ | عبد الإله بوزين

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

       

مجلة فن السرد

 تعلّقا بنفس المشيمة، وتقاسما كل شيء في البطن إلا لون البشرة.
حين لفظتهما أمهما إلى الحياة، انزلق الأشقر أولًا، ثم لحقه الأسمر. احتضنتهما بمحبة شاهقة، لكن الأول تعلّق بالثدي الأيسر، والثاني تعلّق بالأيمن.
كان واضحًا منذ البداية أنهما متعاكسين في كل شيء، كلما اقترب أحدهما من الآخر دفعه بعيدًا كقطبي مغناطيس لا شيء لهما سوى الابتعاد والاعتزال.
تقدمت بهم الأيام والسنوات، وتقوّس ظهر العجوز، ولمّا بلغا أشدّهما كان لا بد أن يبحثا عمّا يسدّ رمق جوعهما.
تبادلا النظرات في منتصف الطريق، كأنهما أعداء، وكأن الأشقر يحمل في قلبه غلًّا تجاه الأسمر.
استمرّا في الزحف باتجاه الغابة، ومن شدة الشجع ردّد الأشقر في قرارة نفسه،  أنه سيحرقها كي لا يترك لأخيه غير الرماد.
فيما الأسمر، من شدة سخائه، كان يفكّر في صيد حجل أو غزال يسكِت وجع أمعائهم أجمعين.
كان أحدهما في قمة الجبل، والآخر في السفح. لا هذا ولا ذاك يعرف مكان أخيه، لكن الاثنين داخل الغابة.
أخذ الأشقر يضرب حجر الصوّان بعضه ببعض لإضرام النار. وبموازاة عملية إشعال النار، كان الأسمر يتحسّس غزالًا راقدًا في كهف بالقمة.
حين طعنه في عنقه، كانت النيران تلتهم الأخضر واليابس، ولمّا رأى الأسمر لهيبها، صار في حيرة من أمره، كيف ينقذ أخاه من الحرائق؟ وكيف يطعم العجوز المنهكة في البيت؟
حمل الغزال على ظهره، وانطلق نحو السفح بحثًا عن أخيه، غير مكترث للنيران المشتعلة، ثم رمى بنظراته الحديدة هنا وهناك، لكنه لم يجد لأخيه أثرًا.
وحين ظنّ أنه قد تفحّم في الغابة، جلس القرفصاء يندبه، تارة يأخذ بشعوره وأخرى يضرب بفخذيه.
لم يُلاحظ أن الأشقر كان قريبا منه، واضعا يداه على فمه محاولا كتم الصرخات، وعيناه تفيض بالدمع كأنها سحابة أرسل عليها الله ريحا أدفقت مطرها.
أوجعه كل ما كان يكنّه لأخيه من بغضاء، فصارت أناه تفترس دواخله، وتُشعره بالندم على كل ممارساته كما لو أن الصفاء كان معلّقا بنيّاط قلبه، وما كان ينقصه إلا حدث يظهر معدنه الحقيقي.
للحظةٍ، نهض الأسمر من مكانه، وهمّ بالعودة، فإذا بجسدٍ يتهاوى أمامه كجذعٍ اقتلعته العاصفة.
تجمّد في مكانه، وقد عرف مَن يكون.
كان الأشقر يزحف من بين الرماد، وجهه مسوّدٌ من الدخان، وعيناه دامعتان، ليس من النار بل من الخجل والندم .
رفع رأسه إليه، وقال بصوت مكسور:
- لم يكن الحقد إلا صدأً عالقًا على قلبي. ظننتك عدويّ، ولم أدرِ أنك نصفي الآخر.
اقترب منه الأسمر، ووضع يده على كتفه دون كلمة. لم يكن في حاجة لاعتذار من أخيه، فدموعه كانت أبلغ من أي قول.
وحين عادا إلى أمهما بغنيمة الصيد، لم تكن سعيدة بالغنيمة، بل برؤيتهما معًا، وقد ذاب بينهما ما كان من صدأ.
وفي هدوء المساء، قالت الأم  وهي تحدّق في وجهيهما وكأنها كانت عارفة بالقلب الصدئ:
الأخ الذي يغفر لأخيه، لا يُشبه أحدًا، ومن وجد أخاه، فقد وجد نفسه. اغسلا قلبيكما بالتقوى وتوكلا على الله، فمن حسد غيره كأنما يأكل من نفسه دون أن يشعر.
مجلة فن السرد | مشاتل 


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث