وداعاً... إنّي لراحل غداً | مروان ياسين الدليمي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 


كانوا يقولون إنّني ولدتُ في وقت لا يتّسع لأحلام كثيرة.

في الزاوية العليا من الفجر، حين تُربك الظلال أقدامَ السائرين، خرجتُ من الدار دون أن ألتفت، كنتُ قد ودّعت الجميع، لكنّي التفتُّ مرّةً أخيرة، رأيتُ أمّي تقف عند الباب، لا تلوّح بيدها، لا تبكي، فقط تنظر. نظرة ما أزال أراها كلما حدّقتُ في العتمة.

قال أخي: "لن تعود" .

قال أبي: "دعه يذهب، فمن لا يذهب لا يعود أصلاً" .

منذ تلك اللحظة بدأ الزمن يُعاد ترتيبه. الأشياء لم تعد تتبع خطاً واحداً، بل تتبع تشققات الذاكرة.

في سنة 73، كنتُ أجلس مع الأربعة الآخرين على الأرض، نرسم خرائط المدن التي لم ندخلها، ونكتب أسماءنا على الرمل كي تمحوها الريح.

كان "سامي" يضحك دائماً، كأنّه لا يعرف أننا نحمل الح.رب في جيوبنا.

وكان "علي" يحدّق في الأفق وكأنه يقرأ وصايا قديمة.

و"قاسم" لا يتكلم كثيراً، فقط يعزف بأصابعه على التراب.

أما "جمعة"، فكان لا ينام، ظلّ ساهراً كل الليالي، كأنّ النوم خطيئة لاتغتفر.

وأنا... كنتُ أعدّ الأيام المتبقية، لا من أجل العودة، بل من أجل أن أعرف كم يلزمني لأصبح شخصاً آخر، مختلفاً، بعيداً عمّن كنتُه حين ودّعتُ الباب، ووقفت أمي هناك لا تلوّح.

المدينة التي ذهبنا إليها لم تكن واضحة. كل صباح كانت تتغيّر واجهاتها، وكانت شوارعها تشبه بعضها حتى تختلط الخرائط.

كأننا نعيش في ذاكرة شخص آخر، شخص يحلم بالنجاة ولا يعرف من أين تبدأ.

أحياناً، حين يشتدّ علينا التعب، كنا نتذكر ضحكة أمي، لكن سرعان ما تختفي، كأنها لم تكن يوماً.

في إحدى الليالي، قال سامي: "أريد أن أعود" .

قلنا له: "الطريق إلى الخلف أغلقته خطانا" .

وفي الفجر، لم نجده.

بحثنا عنه في الشوارع، بين اللافتات، تحت الأرصفة، لكن كل ما وجدناه قبعته، وعليها بقعة د.م صغيرة.

قاسم قال: "ربما عاد فعلاً" .

علي تمتم: "لا أحد يعود كما كان" .

ثم بدأت الح.رب تكتب أسماءنا واحداً تلو الآخر.

جمعة مات أولاً، لم يصرخ، فقط انهار كأنه كان ينتظر ذلك.

ثم قاسم، بقي أسبوعاً لا يتكلم، ثم جلس على التراب وراح يحفر حفرة بيديه حتى لم يبقَ منه شيء.

علي... رأيته آخر مرة في الزاوية الجنوبية من المعسكر، يضحك دون صوت، كأنّه رأى أمه واقفة عند الباب.

وبقيت أنا... وحدي، لا أذكر كم من الوقت مرّ.

كل ما أذكره أن الباب لم يُفتح ثانية، وأن أمي ما تزال هناك، واقفة، لاتلوّح، لا تبكي... فقط تنظر.

وأنا أمشي.

أمشي منذ سبع سنوات، أعدّ أسماء الق.تلى، وأحاول أن أتذكّر اسمي.

مجلة فن السرد | محاكاة


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث