ابتسامة أخيرة | منى الجبريني

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 1 تعليق

 

مجلة فن السرد

تتصفح الكتب بنهم، تغرق تمامًا بين الحروف والكلمات، لا تأبه للعالم من حولها، يتناهى إلى مسمعها ضجيج خارج غرفتها، لكنها تأبى مُغادرة كتابها الأثير، تُقلّب الصفحات، تُتابع أحداث الرواية المُشوّقة، بينما تنفعل مع كل كلمةٍ تخترق روحها، حتى انفتح الباب بغتةً، يصرخ أخوها بأن والدها قد سقط أرضًا، وسينقلونه إلى المُستشفى. وضعت كتابها برفق على سطح مكتبها، ثم هرعت لنجدة أبيها.

في المستشفى، صرخاتٌ مكتومة، وتوتر يخنق المكان. تتكئ على كتف والدتها، بينما يواجهها أخوها، عاقدًا ذراعيه أمام صدره، مُتشحًا بكآبةٍ قاتمة، يُحدّجها بنظراتٍ مُعاتبة، مُستنكرًا هدوئها. تجاهلته، بينما تغمض عينيها، مُستعيدةً أحداث الرواية، التي كانت تقرأها منذ قليل، تنفض بها آثار القلق من أعماق روحها، حتى ظهر الطبيب. أعلن أن الوالد يُعاني من ذبحة صدرية حادة، ويحتاج لرعايةٍ خاصة، لذا سيظل نزيلًا لديهم، وباستطاعة أحدهم مرافقته بالمستشفى، حتى تتحسن حالته.

 اجتاح الحزن ملامح والدتها، بينما انهارت على الأرض، مُنتحبةً، انتفض شقيقها للاعتناء بوالدتهما، نصحها بالعودة إلى المنزل، لتُريح أعصابها، آمرًا شقيقته بالمكوث مع الوالد.

قناع التنفس يجثم فوق أنفاسه، بينما جسده مُتخشب، بلا أي أثرٍ للحياة، ترقبه ابنته في جمود، عيناها خاليتان من المشاعر، تمرر بصرها على ذراعيه الخامدتين، عروقه النافرة، الزرقاء، فتلمس أنامله، لكنها ترفع يدها بسرعة، حين تلسعها برودة جسده. تغمرها دهشة عارمة، غير مُصدقة أن أباها، الجبل الصامد في وجه رياح الزمن، تهزمه بضع آلامٍ خفية، لكنها وحدها تعلم ما يخفى على الجميع.

تغفو على المقعد بجانب سريره، لتصفعها الذكريات، آثار يده الغليظة على وجنتها، صوته الجهوري يبث الرعب في أوصالها، يقهرها، لتُمزق قبضتاه كُتبها، يُحيلها إلى رمادٍ مُشتعل، يحرق قلبها، فتدعو له بالهلاك، بينما يستمر في ركل أحلامها. تستحيل دُمية بين أصابعه، يُلحقها بمدرسة الصنايع، رغم حصولها على درجة الثانوية العامة، يخطبها لرجلٍ عجوز، ثري، بعد عيد ميلاها الرابع عشر، ثم يستنزف أمواله ليلةً تلو الأخرى، مانحًا إياه الوعد بتزويجهما، حين تنال شهادة (الدبلوم).

تنتفض في مقعدها، حين يصيح في أحلامها، ناعتًا إياها بالبطة القبيحة، الفاشلة، ذات الأنف الأعوج، رغم أنها ورثته منه، لكنه لا يعترف بالشبه بينهما. يطعن روحها بالقهر، و يوصمها بالغباء، بينما تنهل من المعرفة، ما يمنحها صلابةً وثباتًا، حتى أتت لحظة الحسم، أعلنت رفض الخطبة، وعصت أوامره، رفع يده ليصفعها، فأمسكت ذراعه بقوة، هددته برد الصاع له، إن أزعجها مرةً أخرى، تركته ذاهلًا في حجرته، مُتشبثًا بصدره، غير قادرٍ على التنفس، بينما عادت إلى حجرتها، تقرأ كي تحمي روحها من العالم.

يحتشد الآلاف لأداء صلاة الجنازة، تتشح النساء بالسواد، ترفعن أيديهن للدعاء، بينما ترتجف روحها، في حبورٍ صامت، تنساب الدموع من عينيها، بينما تسجد لربها، في امتنان. ترفع رأسها لتجد النعش يطير صوب مُستقره الأخير، تتأبط ذراع والدتها، التي تنعي رحيل زوجها، وتنهمر منها الدموع بلا انقطاع، حتى وصلتا إلى مرقده الأبدي، لترفع الزوجة يدها، تدعو له بالرحمة، ثم تطلب من ابنتها أن تُشاركها الدعاء. ترفع الفتاة يدها، لوهلة، تنظر إلى القبر بعينين جامدتين، ثم تُخفض ذراعيها إلى جانبيها، دون دعوةٍ واحدة، تضبط رداءها الأسود، ثم تمضي نحو البوابة، تُغادر المقابر، بينما تلمع البسمة في عينيها.

مجلة فن السرد | محاكاة


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

تعليق واحد

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث