هيَّ... الغاويةُ المنيعةُ | ماجدة الغروادي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

ماجدة الغروادي

ماجدة الغروادي
المبدعة ماجدة الغروادي


حَجَبَتْ عَنْهُمَا سَكْرَةُ الغَفْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَغَّلَا فِي التِّيهِ، لَكِنَّهُمَا أَصَرَّا عَلَى السَّيْرِ نَحْوَهَا. كَانَ الأَوَّلُ يَرَى فِيهَا بِرِّيَّةً وَأَحْرَاشًا كَثِيفَةً، وَكَانَ الثَّانِي يَرَاهَا سُلَّمًا سَمَاوِيًّا يُوصِلُهُ إِلَى اللهِ.

أَشَارَتْ إِلَيْهِمَا بِالتَّوَقُّفِ وَالكَفِّ عَنِ التَّرَبُّصِ بِهَا؛ فَمَنْ يَتَرَقَّبُ يَفْتَرِضُ أَنَّ الزَّمَنَ يَسِيرُ بِخَطٍّ مُسْتَقِيمٍ، وَهِيَ لَا تُؤْمِنُ بِالخُطُوطِ المُسْتَقِيمَةِ. الزَّمَنُ عِنْدَهَا مُرَاوِغٌ وَمُتَفَلِّتٌ، يَسْتَدِيرُ وَلَا يُمسَكُ.

رَغْمَ النُّذُرِ، طَرَقَا بَابَهَا عِنْدَ انْحِنَاءَةِ مَسَاءٍ.

كَانَ الأَوَّلُ عَارِيًا، تَبْرُقُ فِي عَيْنَيْهِ وِدْيَانٌ وَأَنْهَارٌ وَمُرْتَفَعَاتٌ خَضْرَاءُ. جَسَدُهُ مُضَمَّخٌ بِرَائِحَةِ التُّرَابِ وَعُوَاءِ الذِّئَابِ وَخُوَارِ البَهَائِمِ. يَحْمِلُ فِي يَمِينِهِ رُمْحًا، وَفِي يَسْرَاهُ أَزْهَارًا بَرِّيَّةً. قَالَ لَهَا: "لَمْ آتِكِ بِشَيْءٍ... إِلَّا أَنْ تَجْعَلِينِي أَسْمَعُ صَمْتَكِ. عَلَيَّ أَنْ أَسْمَعَ مَا تَبَقَّى مِنْ صَمْتٍ خَلَّانِي. الجِرَاحُ لَمْ تُفَارِقْنِي، ظَلَّتْ يَقَظَةً فِيهِمْ... يَقَظَةً فِيَّ".

أَمَّا الثَّانِي فَكَانَ يَقِفُ كَالمَصْلُوبِ، عَيْنَانِ غَائِمَتَانِ تَحْمِلَانِ إِيمَانًا وَشَكًّا. رُوحُهُ مُمَزَّقَةٌ بَيْنَ هَمْسِ الكَنِيسَةِ وَضَجِيجِ الحَضَارَةِ. تَقْبِضُ يُمْنَاهُ كِتَابًا أَصْفَرَ - الإِنْجِيلَ. قَالَ لَهَا: "أُرِيدُ أَنْ أَتَمَشَّى مَعَكِ. سَأُصَلِّي مَعَكِ إِنْ أَرَدْتِ، أَوْ ضِدَّكِ إِنْ رَغِبْتِ... لَا فَرْقَ. المُهِمُّ أَنْ أَصِلَ إِلَى قَلْبٍ لَا أَزَالُ فِيهِ أُصَلِّي".

حَدَّقَتْ فِيهِمَا وَقَالَتْ:

"أَنْتَ، يَا مَنْ يَحْمِلُ اليَخْضُورَ دَاخِلَهُ، اذْهَبْ إِلَى النَّبْعِ قُرْبَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ.

وَأَنْتَ، أَيُّهَا المَسْكِينُ المَلْوُثُ، ارْتَقِ إِلَى البُرْجِ هُنَاكَ خَلْفَ الجِبَالِ.

عُودَا إِلَيَّ، وَسَأَنْكَشِفُ أَمَامَكُمَا".

سَارَ الأَوَّلُ نَحْوَ الشَّجَرَةِ. اقْتَرَبَ مِنَ النَّبْعِ، فَسَرَتْ بِهِ رَجْفَةٌ. وَجَدَ أَخِيرًا شَوْقَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ صَمْتَ خِلَانِهِ. نَظَرَ فِي المَاءِ، فَرَأَى وَجْهَهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ. تَسَاقَطَتْ دُمُوعُهُ. خَلَعَ رُمْحَهُ وَوَضَعَ الأَزْهَارَ بِجَانِبِهِ... عَالَ صَرَاخُهُ: "لَا أُرِيدُ أَنْ أَشْرَبَ مِنَ النَّبْعِ! لَا أُرِيدُ!"

حِينَ اخْتَلَطَتْ دُمُوعُهُ بِمَاءِ النَّبْعِ، التَفَّتْ أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ... كَانَتْ تِلْكَ لَعْنَتَهُ. خَلَاصُهُ مَشْرُوطٌ بِالشُّرْبِ مِنَ النَّبْعِ، وَمَاءُ هَذَا النَّبْعِ يُذَكِّرُهُ بِجِرَاحِهِ. الشُّرْبُ سَيَقُودُهُ إِلَى خِلَانِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الآَنِ ذَاتِهِ سَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابًا أَغْلَقَهُ مُنْذُ الأَزَلِ.

فَكَّرَ فِي خِلَانِهِ. أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ وَيَرَاهُمْ جَالِسِينَ عَلَى الضَّفَّةِ الأُخْرَى، وَلَكِنَّهُ فِي الآَنِ ذَاتِهِ فَضَّلَ أَنْ تَعْصِرَهُ الأَغْصَانُ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ جُرْحَهُ القَدِيمَ. حَاوَلَ الاقْتِرَابَ مِنَ النَّبْعِ، فَأَرْخَتِ الأَغْصَانُ قَبْضَتَهَا. غَمَسَ يَدَهُ اليُسْرَى فِي المَاءِ، ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَى شَفَتَيْهِ... هَلْ شَرِبَ أَمْ تَرَاجَعَ؟ لَا أَحَدَ يَعْلَمُ.

فِي اليَوْمِ التَّالِي، نَبَتَتْ زَهْرَةٌ بَرِّيَّةٌ قُرْبَ النَّبْعِ... مُخْتَلِفَةً كُلَّ الِاخْتِلَافِ.

أَمَّا الثَّانِي فَضَاعَ بَيْنَ الجِبَالِ، يُرَدِّدُ فِي هَمْسِهِ: "دُلَّنِي... هَا أَنَا ذَا أَتِي!" فَتَحَ إِنْجِيلَهُ لَحْظَةً، فَإِذَا الصَّفَحَاتُ بَيْضَاءُ. سَكَنَ لَحْظَةً، ثُمَّ انْقَشَعَ الوَهْمُ: لَا بُرْجَ... لَا طَرِيقَ... فَقَطْ هُوَ وَالجَبَلُ.

وَلِأَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنْ ثِقْلِهِ، وَجَدَ طَرِيقَ العَوْدَةِ إِلَيْهَا... وَلَمْ يَجِدْهَا.

فِي اليَوْمِ التَّالِي، مَرَّتْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِ الجِبَالِ... كَانَتْ هِيَ.

وَفِي اليَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ، شُوهِدَتْ أَوْرَاقٌ بَيْضَاءُ تَتَطَايَرُ مِنْ بُرْجٍ خَلْفَ الجِبَالِ. 

مجلة فن السرد | مشاتل 


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث