دستويفسكي وأولى أعماله (رواية المساكين) | انتصار حسن

الكاتب: Entesar Hassanتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد

كانت رواية "المساكين" هي أول إبداعات الشاب دستويفسكي، ذو الأربعة والعشرين عامًا فقط. تنقلت الرواية بين زمنين، زمن ماضٍ للذكريات، وزمن حاضر. 

وكان موفقًا في طرحه وفي اختيار عنوانه، إذ تناسب العنوان مع كل شخصيات الرواية، لعله تأثر ببؤساء هوجو فسطر على نهجها رائعته. 

حلم دستويفسكي دائمًا بالإنسان السعيد، ومع ذلك لم يصور أبطالًا سعداء في رواياته. وقد تميز أسلوبه بالمذكرات التي كتبها على شكل مراسلات تحكي يوميات أشخاص محددين فبدأ برسالة، واختتم برسالة كذلك.

الرواية عبارة عن مجموعة رسائل يتشوق القارئ لمعرفة رد كل رسالة. بلغ عدد الرسائل 55 رسالة، وعلى كل رسالة تاريخ كتابتها. والمراسلات كانت بين السيد ماكار ديفوشكين (الرجل المسن) والشابة فرنكا التي مثلت له الأمل.

شخصيات الرواية:

ماكار وفرنكا هما الشخصيتان الأساسيتان. أما الشخصيات الثانوية فهي من جانب ماكار: صديقه غورشكوف، جارته تيريزا، صاحبة المنزل، رئيسه في العمل، أصدقاؤه الذين يتكلم معهم عن الأدب. ومن جانب فرنكا، فلديها صديقتها فيدورا. وفي نهاية الرواية يظهر بيكوف الذي تتزوجه، وتنتهي الرواية على هذا الحدث.

عرض وتحليل لمحتوى الرواية:

تبدأ الرواية برسالة من ماكار، وفيها يشكو لفرنكا مشاكل الشيخوخة. فيقول إنه لم يعد يقوى على العمل، فهو سرعان ما يتعب من أي جهد بسيط يبذله. 

وتتجلى مظاهر البؤس والفقر والمأساوية حين يكتب لها بأنه يحرم نفسه من أشياء كثيرة، حتى الشاي لم يكن يشربه. ولكنه أصبح فيما بعد أكثر حرصًا على تدبير مبلغ من المال للشاي والسكر. مبررًا ذلك بقوله: "إن عدم شرب الشاي شيء مخجل، فجميع جيراني يشربون الشاي، حتى أنه يشعر بالخجل أمامهم. ولهذا فهو يشرب الشاي من أجل الغرباء، وللمظهر، ولئلا يصبح مختلفًا عن بني جنسه، ليس إلا. أما عن الشاي، فوجوده عنده كعدمه."

وعلى نفس المنطق، نجده في رسالة أخرى يبدي رأيه في لبس المعطف والحذاء فيقول: "أنا لا أتحسر على نفسي، فكل شيء سواء عندي. حتى لو خرجت في شدة الزمهرير بلا معطف وبلا حذاء طويل، فأنا أصبر وأتحمل. ولكن ماذا سيقول الناس عني؟ فنحن نرتدي المعاطف من أجل الناس، والأحذية كذلك ننتعلها لكي نحتفظ بكرامتنا."

ويتحدث دستويفسكي عن المسكين على لسان بطل الرواية ماكار ديفوشكين فيقول: "إن المسكين رجل موسوس، يرى الدنيا برؤية مختلفة، وينظر إلى كل عابر سبيل، وتلتقط أذنه أي كلمة يقولها الناس. فربما يتحدثون عنه، وربما يقولون إنه دميم..."

في أكثر من رسالة، يكتب لفرنكا أنه أرسل لها رطلاً من الحلويات أو ملبسات أو غيرها. في حين تلومه فرنكا لأنه يبعث إليها بالهدايا الثمينة. وتقول إنها تكتفي بالزهور الرخيصة، فليس هنالك أي داعٍ للزهور الباهظة الثمن، وللحلويات كذلك.

تكلم ماكار عن طبيعة علاقتهما. فنجده يتذمر من نفسه ويستغرب وقوعه في الحب وهو في هذه السن. ثم نجده يتراجع ويقول إن هذه العاطفة ليست سوى عاطفة الود الأبوي، وإن تفسير ما يفعله معها هو شعوره بالمسؤولية تجاهها، بما أنها فتاة يتيمة، وهو بمقام والدها، وقريبها، وعائلها الوحيد.

انعكاس ذات دستويفسكي على الرواية:

يظهر الإيمان بالرب الأوحد، فماكار وفرنكا يدعوان الله ويشتكيان حالهما. فتقول فرنكا: "سأدعو لك الرب إلى الأبد، وإذا بلغ السماء دعائي وتقبله الرب، فسيهبك السعادة."

خيمت الأجواء المأسوية على الرواية، فيظهر اليأس من الحياة. عندما تمرض فرنكا، فتقول: "أشعر أني سأموت عما قريب، فمن سيدفنني، ومن سيمشي وراء نعشي؟" وفي نفس الموضوع، يقول ماكار: "أتريدين أن يأخذوا نعشي إلى المقبرة على عربة حمولة بسيطة، ولا تسير ورائي سوى عجوز كسيحة، يهيلون علي التراب هناك ويذهبون؟"

يظهر شخص دستويفسكي الكاتب في شخصية راتازييف، صديق ماكار، الذي ذكر بأنه يكتب خمس ملازم دفعة واحدة ويتقاضى عن الملزمة 300 روبل. وأحيانًا يجادلهم في المبلغ حتى يضاعفوه له. فتظهر شخصية الكاتب التي تكلمت عنها مسبقًا في تعريفي لهذا الكاتب.

تقرر فرنكا الاشتغال مربية بجانب عملها في التطريز، ولكن ماكار يرفض هذا ويقول إنه يلبي لها كل حاجياتها. وهي ضعيفة لا تقوى على العمل. ويقول بأنه سيفعل أي شيء ليجعلها غير محتاجة لشيء حتى لو اضطر لبيع آخر ما لديه.

تكتشف فرنكا أن ماكار يمر بضائقة مادية، وأنه باع ملابسه في فترة مرضها. فتلومه على ذلك، وتلومه لأنه منعها من العمل. يعترف لها بكثرة ديونه، وبحالته التي يُرثى لها. وسوء ملابسه التي يرتديها، ويصف لها خجله من نظرة الناس إليه.

وبهذا تتغير الأحوال، فتصبح فرنكا هي التي تساعده وتقدم له يد العون. وتبعث له مبالغ مالية كثرت أم قلت. فترد المعروف بالمعروف، والإحسان بالإحسان. ولكن هاهي تتعرض للمضايقات، فتطلب منه الاستدانة لتغيير سكنها.

أصبح حاله سيئًا للغاية، وانعكس ذلك على عمله. فقد كان يعمل خطاطًا ينسخ الأوراق للأدباء، وعندما كُلف بنسخ عدة أوراق، نسي سطرًا بأكمله. فتغير السياق الكلي للنص. استدعاه رئيسه للاستفسار عما حدث، وفي هذه الأثناء يسقط زر من أزراره ويتدحرج، فيحدث صوتًا واضحًا على الأرض. فكان ذلك كل تبريره، كل جوابه، وكل اعتذاره.

التفت إليه رئيسه وأخذ يتمعن به. ومن شدة خجل ماكار، ينحني للأرض ويأخذ الزر ويضعه على الخيوط كأنه سيلتصق. وحين علم رئيسه بظروفه، أخرج من جيبه ورقة من فئة مائة روبل قائلاً: "هذا ما أستطيع عليه، فاعتبرها ما تشاء." دس الورقة في يده، وأخذ يده مصافحًا إياه.

أثر هذا الموقف في ماكار، وأخذ يمتدح رئيسه. وطلب من فرنكا أن تدعو له، وأعطاها مبلغًا من المال وخصص مبلغًا لملبسه، وسدد ما عليه من الديون. وترك لنفسه مبلغًا لوقت الحاجة.

الأحداث النهائية للرواية:

يظهر بيكوف طالبًا يد فرنكا، ويعرض عليها الكثير. بدأت فرنكا في تجهيز نفسها للزفاف، ورضي ماكار بالأمر الواقع. ساعدها في شراء الملابس والمجوهرات، وحدد لها كذلك يوم الزفاف.

تخط فرنكا آخر رسالة إليه، ولكنها ليست ككل الرسائل. فقد اختلط الحبر بالدمع. ودعته ووعدته بأنها ستظل تذكره، وطلبت منه أن يذكرها. واختتمت الرسالة بملحوظة تقول فيها: "إن روحي طافحة بالدموع، والدموع تكاد تخنقني."

كانت هذه الرسالة بمثابة جرس إنذار لماكار، فأصبح غير مستوعب للموقف. وغلبت عليه اللهجة الهستيرية. قال لها بأنه قد أحبها، ولكنه كان مغفلًا إذ لم يستطع الحفاظ عليها، ويفكر بالانتحار.. ثم يقول بأنه أحبها حبًا أبويًا صادقًا. فيظهر التضارب في آرائه، فلم يعد يدري ما هو إحساسه نحوها. الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنه يريدها بجانبه، يكتب لها ويحكي لها همومه.

كان قدر فرنكا هو الزواج أما ماكار، فقد انتقل للعيش في شقتها ليتذكرها في كل ركن من أركان الشقة.

أظن أن هذه النهاية كانت معللة بمقولة ذُكرت في الرواية على لسان ماكار، حينما قال: "التعاسة مرض معد. فالتعساء والفقراء بحاجة إلى أن يتحاشى بعضهم البعض حتى لا تشتد العدوى بينهم."

مجلة فن السرد | زوايا

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث