![]() |
بَــــــيَــــــاض | قصة قصيرة | أحمد شرقي |
(لــِمَ اخْتَفَتْ مُتْعَةُ البُطْءِ؟)
ميلان كونديرا، البطء، ص 8
أشار إليّ بسبّابته آمِرا دون مقدمات: أنت.. ستقرأ هذه الروايةَ اليوم، وستَكتُبُ ملخّصا عن أحداثها وشخصياتها... لا وقت لنا! نلتقي غدًا صباحا.
كان عنوان الرواية "العَجَلَة"، لكاتب كلُّ ما أعرفه عنه أنه ضيف ثقيل، وغير مرغوب فيه.. بالنسبة إليّ على الأقل! فكيف سأقرأ رواية له من مائتي صفحة، وألخصها في ساعات معدودة؟! وما يُعْلي درجة الضغط والتوتر، هو هرولة الجميع نحو الخشبة، ودورانُهم حولها مثل دوامة النمل الذي فقد بوصلته.
أدخَلَ مؤسّستَنا الثانوية الهادئة في فوضى مزعجة، ناتجة عن صراع مستفِّز مع الزمن. وَضع آخر الترتيبات لاستقبال كاتب كبير، لا أعرفه.. نعم، لا أعرفه، ولا أريد أن أعرفَه أصلا. كما أني رأيت صورته، لكني لم أنتبه إلى اسمه، الذي نشَرتْه إدارة الثانوية في إعلانٍ، عبر صفحاتها على الفيسبوك وإكس وتيك توك وإنستغرام، وكل تلك التطبيقات التي تــُمجّد الخفة، الطاردة لمتعة التلذذ بالأشياء، والمنهِكة للقلب والعقل معا.
كانت تلك الأيام بمثابة عيد بالنسبة إليه.. إلى أستاذ اللغة العربية، الذي تراه عبوسا وكسولا طُول الوقت، باستثناء ما إذا تعلق الأمر بنشاط أدبي أو فني.. حينذاك، تراه نَشِطا وفَرِحا، يرحّب بالجميع، كما لو كان ذلك اليومُ يومَ عرسِه.
جمعَنا ليلقي خطابا "تاريخيا". قصَد، جاريا، المنصةَ المعَدّة لاستقبال ذلك الضيف. شبك أصابعه، ثم قال بنبرة متوددة، قريبة من البكاء هذه المرةَ:
أبنائي الأعزاء، بناتي العزيزات.. بعد غد، سيكون يوما مشهودا لمؤسستنا.. سنستقبل هرَما من أهرام الأدب المعاصر، وقد لاحقْناه مدةَ عامين، قبل أن ننعم بساعة واحدة من "أجندته"، المليئة بالمواعيد في أرجاء المعمورة كلِّها. وأطلب منكم الإسراع بالاطّلاع على بعض أعماله الأدبية؛ لتحضير أسئلة، سأعدّلها معكم غدا؛ لطرْحها على المبدع الوازن بعد غد. وأرجو منكم الاستماع، والتحلي بالهدوء، والتفاعل الإيجابي مع ضيفكم الاستثنائيّ.
لَمْ يكن لدي مشكل في مطالعة مقتطفات من بعض أعمال الضيف المرتقب، لكن كلمة "الإسراع" جعلتني أفكّر في عدم حضور اللقاء.. لمَ سأُسْرع في القراءة؟ يكفي أنني أتجنب حِصَص الرياضة وكل ما من شأنه أن يكون سببا في الإيقاع المرتفع. ما يشغل بالي هو امتحان نهاية السنة الذي ينتظرني، والذي تأخرت كثيرا في الإعداد له. أما الأدب، فعلاقتي به تتلخص في مجموعة قصصية، لكاتب مغربي، قرأت منها قصة واحدة قبل عام، وأجّلت إكمال قراءتها إلى إشعار آخر.. لا خير في القراءة المستعْجلة.
لــمّا عُدْت إلى المنزل، فتحت هاتفي لأبحث عن ملخص جاهزٍ لرواية "العَجَلَة"، لكني لم أجد أثرا لها في محرِّكات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، غَيْرَ خبر صدور الكتاب، ومعلومات عامة عن الكاتب الكبير والناشر الفريد والنص الباذخ الجديد.
شرعت، على مضضٍ، في قراءة تلك الرواية. لكن، بعد مرور ساعة من الزمن، وهو إنجاز بالنسبة إليّ في عالم القراءة، وجدتُني في الصفحة الرابعة، وأيقنت أنه - لإتمام مطالعة هذا العمل - تلزمني أيام، وربما أسابيع. استسلمت لتعبي، وخلَدْت للنوم، مؤمنا إيمانا راسخا بأن عقابي سيكون عسيرا من قِبل الأستاذ، بعد أنْ يخرج من زوبعة هذا الحدث العظيم.
لَمْ أحْضُر حصّتَه التدريبيّة، وعوضتها بحصة نادي المسرح الأسبوعية. في اليوم الموالي، انصهرْتُ وسط حشود التلاميذ والأساتذة والإداريين، آمِلا ألّا يلمحني مُنظّمُ العرس، عفوا.. اللقاء.
دخل الكاتبُ، فأعجبتني طريقته البطـيئة في المشي، بخطى واثقة ومحسوبة، كما لو كان ممثلا مسرحيا يُتقن فنَّ البيوميكانيك. فتنني تفاعُله المقتضَب مع ترحيب الطاقم التربوي والإداري، كأن يحرك رأسه من الأعلى إلى الأسفل، أو ينطق بعبارة "شكرا لك"، بخلاف المنسِّق، الذي قدَّم كلمةً من خمس عشْرة دقيقة، مليئة بعبارات؛ من قبيل: "شكرا لقريحة مبْدِعنا الكبير، التي جادت بهذه الإنتاجات الأدبية المائزة"، و"إنه لنصٌّ باذخ"، وما شابَه ذلك. والغريبُ أنه ختم عرْضه الرتيب، الطويل العريض، بعبارة "لكي لا أطيل عليكم، سأعطي الكلمة لضيفنا!".
قام الضيف من مكانه احتراما للحاضرين، وقال: "أشكركم؛ لأنكم تحْتَفون بإصداري الورقي العاشر، أنا بصدق مْ..مْ..مْ..مْ...". تلعثمَت كلماتُه، إلى أن انقطع صوته كليّا؛ فصار كمُشخّص بانتوميم، ثم تثاقلت حركة رأسه ويديه على نحو مبالَغ فيه.. أومَض ضوءٌ أحمر وسط جبينه ينذر بنفاد بطاريته.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا