ستمطر أحذية! | يوسف إ. الطاهري

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد


أحس الفتى كأن قطعا من الثلج تنزلق على ظهره النحيف، ثم سرت رعشة برد في جسده. تراقصت أطرافه، وارتعد كيانه، شيئ ما قد بدأ للتو في الانهيار بداخله.

لم يكن بحاجة لفتح عينيه ليعرف أن الغطاء قد هاجر إلى الجهة الأخرى؛ أخوه الصغير كالعادة، ينسى قواعد القسمة العادلة حين يغفو. حاول أن يشد الغطاء إليه، لكن النوم كان قد ضمّ الصغير إليه كما تفعل الأم بطفلها، بجوارحه كلها، حتى لم يبقِ له شبرا يُستعاد. وبعد جهد جهيد، استطاع أن ينزلق من تحت الغطاء، ليلتحم بجسد أخيه تحت سقف الغرفة الغارقة في السكون والظلام.

بدأ يشعر بدفء يغمر جسده، فحاول أن يجمع بشتات النوم المبعثر في ثنايا رأسه، قبل أن تنفلت أشعة الشمس من بطن الليل الكاسح، ويذهب كل إلى حاجاته.

كان يكره أن يستيقظ في وسط الليل، مخافة أن يطول سهره ويشتد فكره. ففي الليل تشب نيران الأفكار في دار رأسه فلا يستطيع إخمادها، وتبدو الأسئلة أكثر إلحاحا، فلا يمكن تجاهلها، وتصير الهموم أكبر حجما، ويضيق صدره بها.

أخذ الفتى برهة من النوم، لكنه سرعان ما استفاق على وقع دقات قُطيرات الماء التي تنفلت من سقف الغرفة، وتصدر إيقاعا منتظما على الدلو غير البعيد من مكان نومه. انتفض بخفته المعهودة، ثم ذهب ليفرغ محتوى الدلو في فناء بيتهم الصغير. حاول بعدها توجيه الدلو في الاتجاه الأنسب لكتم نقرات الماء المزعجة. ثم عاد يحاول استئناف النوم، راجيا ألا يخذله هذه المرة.

استسلم الصبي لعناق النوم الدافئ الذي بدأ يغلبه شيئا فشيئا. لكنه استيقظ كما توقع على صراخ أمه، جراء ما خلفه المطر من أضرار...

كان الصباح أفضل أوقاته، ففيه يستيقظ، ويلتهم ما تعده أمه له في وجبة الفطور. طبق يحتوي على قطع من الخبز المبلل بقليل من القهوة. يسكب الفتى بعضا من مسحوق السكر الأبيض، فيغدو الطبق كأنه بلورات ثلج متناثرة، تذوب وسط طين بني يميل للسواد. رؤية ذوبان السكر، واختفاؤه الآني بين هذا المزيج السحري اللذيذ، منظر يعجبه.

يذوب السكر كما تذوب همومه، حين يخلو بوجه أمه صباحا، يتأملها وهي تحرك سكر قهوتها بملعقة صغيرة فضية اللون، وتصدر نقرات مألوفة وجميلة.

تصطدم الملعقة بجدار الفنجان، فينطلق صدى يمزق جدار الصمت، ثم يرتبك النعاس ويلوذ فرارا مطلقا صراح من بقي في أسرِه من أسرته.

حتما سيتذكر أمه، كلما سمع هذا الصوت العذب أو تأمل امرأة تحرك قهوتها لتذويب جُزيئات السكر فيها، ولكن هذا لن ينال من شغاف قلبه حينها.

 هذا الصفاء الصباحي لم يكن يدوم طويلا، إذ كانت تنتظره لحظة كريهة... تذكر الفتى موعد المدرسة، وما إن فعل حتى تبدل حاله، وغشيه قلق ثقيل كغمامة سوداء. كان يعني له الذهاب إلى الدرس أمرا واحدا لا غير، هو ارتداؤه الحذاء المطاطي اللعين. حذاء أسود، رخيص الثمن، سيئ السمعة بين الأقران.

خرج الصبي إلى الحي مشغول البال. رفع رأسه إلى السماء راجيا غيوما سوداء محملة بالمطر. أبانت السماء وجها ملطخا بغيوم ذات أشكال غامضة. تفحصها الفتى وحاول تشكيلها ونحتها كما كان يألف. صار يشكل منها خروفا، ثم أسدا... وفجأة، ومن شدة التحديق، خيل إليه أن تلك الأشكال تتبخر وتتماهى، حتى تفتتت إلى قطع صغيرة، راحت تتساقط كأنها أحذية من السماء.

شعر الفتى بألم في رقبته، فارتكز إلى حائط بيتهم ثم جلس على عتبة الدار. لمح فجأة حذاء أسود من الجلد بحجم قدمه، يقترب منه، فلم يصدق عينيه بادئ الأمر، فأعاد النظر، فإذا بالحذاء يقترب منه، فخفق قلبه فرحا وقبّلت روحه وجه السماء.

كان الحذاء، حذاء العمة فاطمة. تراءى له أملا مخلصا، فقرر اتخاذ قرار اختلاسه مدة مكوث العمة في البيت. شعر الفتى بسعادة غامرة، فتبددت أحزانه وتلاشى همه كما تلاشت الغيوم فوق رأسه. ثم ضم الحذاء إلى صدره، وركض نحو الشارع كأن العالم كله يبدأ من تحت قدميه.

مجلة فن السرد 



 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث