![]() |
نبيل موميد، أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية مركز أقسام تحضير شهادة التقني العالي أكادير/ المغرب) |
بالرغم من مجمل البراهين التي يقدمها الأدباء والعلماء للاستدلال على التمايز القائم بين الأدب والعلم، إلا أن "أدب الخيال العلمي" تمكن بشكل مثير للانبهار من أن يقيم وشائج وثيقة بين المجالين المذكورين؛ ذلك أن كلمة "الخيال" تحيل على طاقة الإبداع والتَّخييل، التي يتوسل بها الكاتب "الأدبي" من أجل صياغة تصوره المخصوص للعالم، في حين ترتبط "العلمي" بمختلف حقول المعرفة العلمية بدون أدنى استثناء.
وعلى هذا الأساس، يكون التعريف الرائج الذي ساقه المرحوم الدكتور "أحمد خالد توفيق" لأدب الخيال العلمي، ملائما للغاية للطرح أعلاه؛ فهو "خيال ممزوج بالحقائق العلمية والرؤية التنبئية"( ). أي أنه يجمع في نفس الآن بين الصفة الذاتية، من خلال التخييل الشخصي للمبدع، والصفة الموضوعية الكامنة في استثمار حقائق علمية، قد تكون بمثابة مسلمات أو في طور البرهنة على صحتها أو حتى مجرد أفكار تخامر أذهان العلماء، وكذا الغاية الاستشرافية التوقُّعية لما سيكون عليه المستقبل؛ ومن هنا تسمية البعض لهذا الأدب بأدب التنبؤ بالمستقبل أو أدب الأفكار أو أدب التغيير...
ويكاد يجمع أغلب الدارسين لهذا الموضوع على أن أدب الخيال العلمي مرَّ من مراحل ثلاث: مرحلة "أدب الخيال العلمي البدائي" (وأقدم نص معروف ينتمي إلى هذه المرحلة هو "قصص حقيقية" لمؤلفه لوقيان السميساطي (125-180م)، والذي تم فيه التطرق لأول مرة إلى السفر إلى الفضاء)، فمرحلة "أدب الخيال العلمي الأوَّلي" (وتمتد من عصر النهضة إلى القرن التاسع عشر. ومن أهم النصوص الخيالية العلمية لهذه الفترة، نخص بالذكر "يوتوبيا" لـ توماس مور، و"دول القمر وإمبراطورياته"، و"دول الشمس وإمبراطورياتها" للفرنسي سيرانو دو بيرجورا، و"ميكروميجا" لـ فولتير، و"فرانكنشتاين" لـ ماري شيلي...)، ثم مرحلة "أدب الخيال العلمي الحقيقي" (ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وخاصة في فرنسا مع جول فيرن، وفي بريطانيا مع هلبرت جورج ويلز، وفي الولايات المتحدة الأمريكية. وقد عرفت هذه الأخيرة ازدهار هذا الأدب، لاسيما في النصف الأول من القرن العشرين، بالنظر إلى توجه عدد كبير من الأدباء والناشرين إلى إصدار مجلات متخصصة في الخيال العلمي بأثمنة زهيدة، ساعدت على انتشار كبير لهذا النوع من الكتابة الإبداعية)( ).
تطرق أدب الخيال العلمي إلى مواضيع عديدة تحاول استشراف مستقبل البشرية، أحيانا بأسلوب متفائل يطبعه الأمل في غد أفضل، وغالبا بنبرة تشاؤمية متشككة في إمكانية رفاهية المستقبل، خاصة في ظل تأزم الحاضر. وقد تمت نمذجة هذه المواضيع وتصنيفها إلى عشرين ونيف نوع؛ وذلك من قبيل: حكايات المخلوقات الفضائية، وحروب العوالم، والتاريخ البديل، واليوتوبيات، ونقائض اليوتوبيا، والروبوتات، والسفر عبر الزمن، ونهاية العالم، وتجارب التجميد وتحدي الموت، والأناس الخارقون، والسايبير بانك وغيرها كثير.
وعلى الجانب الآخر، بالنظر إلى طبيعة المجتمع العربي بدوية الأصل، وشاعرية الهوى، فإنه لم يعرف هذا الأدب إلا مؤخرا ابتداء من أواسط القرن العشرين، من خلال الترجمة عن الغرب والاقتباس منه( )، قبل المرور إلى محاولة ربطه بخصوصيات المجتمعات العربية وصياغة تخمينات واقعية بصدد مستقبلها.
ومن أهم المحاولات العربية الفارقة والمؤسِّسة، نذكر: رواية "العنكبوت" لـ مصطفى محمود، و"قاهر الزمن" لـ نهاد شريف، وروايات "ضوء في الدائرة المعتمة"، و"أسرار من مدينة الحكمة"، و"أهل الكهف"... لـ طالب عمران، ومجموع قصص سلسلة "ملف المستقبل"، وروايتا "ظل الأرض" و"شمس منتصف الليل"... للدكتور نبيل فاروق، و"إكسير الحياة" لـ محمد الحبابي، و"الطوفان الأزرق" لـ عبد السلام البقالي، و"الرجل المتعدد" لـ طيبة الإبراهيم.
وبغض النظر عن كل المحاولات المذكورة، إلا أن أدب الخيال العلمي العربي يعيش أزمة خانقة، بسبب ضعف الإقبال عليه، بل وحتى تصنيفه بوصفه أدبا من الدرجة الثانية أو الثالثة. ولا يرتبط هذا الأمر فقط بـ "العجز العلمي عن الابتكار والاختراع (...) فحسب، بل يتجاوز كل هذا بتخبط أعمق داخل جذور العقلية العربية التي تشكل أساس معوقات الانطلاق الحضاري والعلمي(...) بما يجعله عاجزا عن تحقيق التوازن بين مفاهيم الأصالة والحداثة والتقدم"( ).
في هذا الإطار، يحاول مجموعة من الكتاب الشباب العرب حمل المشعل، وتجاوز حالة الركود التي يعرفها هذا الأدب، وذلك من خلال تجريب أشكال تعبيرية جديدة، وأساليب سردية غير معهودة، بالإضافة إلى التنويع في المواضيع والجرأة في اختيار حتى ما قد يبدو غريبا على الواقع والذوق العربيين؛ مدفوعين في ذلك بتنامي انتشار ظاهرة العولمة، وسرعة الفيض المعلومياتي والتطور التكنولوجي، وتزايد اتساع الفجوة الرقمية بيننا وبين الغرب. ومن ذلك "السايبير بانك".
السايبير بانك في الأدب العربي
تشير عبارة "السايبير بانك" إلى روايات الخيال العلمي التي تتخذ القراصنة الإلكترونيين/ الهاكرز والتطور التكنولوجي في ظل عالم مستقبلي وشيك، قاتم وعنيف موضوعا لها، كما أنها تعمد إلى استحضار مختلف مظاهر الذكاء الصناعي وجعلها في مواجهة الذكاء البشري، وأحيانا دمجهما معا. وتحاول هذه الروايات أن تستحضر أهم ثيمات السيبيريانية كما تمت معالجتها في بعض الروايات التي أسست لها؛ وذلك من قبيل: رواية "1984" لـ جورج أورويل، و"أفضل العوالم" لـ ألدوس هوكسلي، وقصص إسحاق عظيموف حول الروبوتات والقوانين التي وضعها لتنظيم العلاقة بين عالمي الإنس والآلة.
ومع التطور الكبير الذي عرفته فنون التعبير، انتقل "السايبير بانك" من مجال الكلمة المكتوبة إلى رحابة الصورة المتحركة؛ أي إلى السينما، وأفلام الدمى ثلاثية الأبعاد، وألعاب الفيديو.
وباستقراء مجمل النتاج السردي الخيالي العلمي العربي، نسجل غيابا شبه تام لتوظيف هذه الثيمة/ النوع، وحتى إن حضرت في بعض الروايات أو القصص، فإنها تكون بشكل عابر. ومن أبرز من استحضر "السايبير بانك" في السياق العربي نذكر:
• د. نبيل فاروق في بعض أعداد سلسلته "ملف المستقبل"، ولاسيما الأعداد 20 ("العقول المعدنية")، و87 و88 ("نصف آلي" و"الانفجار الحي")، و112 و113 و114 ("بصمة الموت"، و"حرب الفيروسات"، و"الرعب").
• د. رؤوف وصفي، في بعض قصص سلسلته "نوفا"، ومن أمثلة ذلك: "الإنسان الآلي القاتل" (ضمن العدد الثاني)، و"الرعب الإلكتروني" و"تدمير برنامج كومبيوتر" (ضمن العدد الخامس عشر)، و"الكومبيوتر يحكم" (ضمن العدد العشرين) وغيرها.
غير أن الموجة الجديدة من الكُتَّاب انتبهت إلى هذه الثيمة، ووظَّفتها في إبداعاتها، لكن هذه المرة لتُعبِّر عن مختلف مظاهر الصراع الذي يتخذ العالم الافتراضي ساحة له في العالم العربي وليس الغربي. وفي هذا السياق، سنحاول أن نستكنه خصوصيات "السايبير بانك" من خلال نموذج خيالي علمي عربي معاصر؛ هو رواية "أنامل الشيطان"( ) لـ "علاء الدين طعيمة.
رواية "أنامل الشيطان": قراصنة الفضاء السايبيري في خدمة الشيطان
تدور أحداث الرواية في مدينة الإسكندرية المصرية. فبعد أن أنهت علياء دراستها الجامعية؛ لم تجد عملا خارج البيت تعين به أهلها على شظف الحياة؛ فانغمست في الشبكة العنكبوتية، علَّها تجد فيها عملا يُدرُّ عليها دخلا محترما دون أن تضطر للخروج من المنزل، خاصة مع مرض أمها. غير أنها ستغوص في الأنترنيت إلى درجة أنها ستصبح انعزالية وانطوائية، لا تخرج من غرفتها، وغير قادرة على مغادرة العالم الافتراضي إلى نظيره الواقعي. كانت كالزهرة التي تذبل يوما بعد آخر، تائهة بين المواقع الإلكترونية والمدونات الرقمية وغرف الدردشة؛ بل إنها انغمست حتى في مواقع بيع المتع المحرمة... إلى أن جاء يوم وجدت فيه من يقوم بدعوتها إلى تحميل برنامج ما على حاسوبها، واعدا إياها بربح وفير مقابل عمل بجهد يكاد لا يذكر. كان عملها ينحصر في الدخول إلى حسابات مصرفية شخصية واختلاس مبالغ مالية مهمة منها وتحويلها إلى حساب آخر. ربحت علياء من هذا العمل الدَّنيء أموالا ظلت دائما في رحلة البحث عن الزيادة فيها، رغم أن مخاطبها أخبرها بأنه... لوسيفر؛ أي الشيطان نفسه.
باعت علياء نفسها للشيطان مقابل المال، غير أن السلطات كانت تراقب عن كثب تلك الاختلاسات البنكية، وتحاول معرفة مصدرها؛ وذلك بمساعدة الخبير المعلومياتي سيف.
بعد محاولات عدة، سيتمكن سيف من الإيقاع بـ علياء، التي اعترفت بأنها كانت في خدمة الشيطان، إلا أن مصالح الأمن لم تستسغ الأمر. ظل سيف يتعقب الأمر إلى أن اكتشف في النهاية أن الأمر يتعلق بمجموعة من الشباب من عبدة الشيطان، هم بمثابة قراصنة إلكترونيين/هاكرز؛ يقودهم شاب يُغرِّر بضعفاء الإرادة لخدمة مصالحه الشيطانية. وكلٌّ أخذ جزاءه في النهاية.
تحاول هذه الرواية أن تقدِّم صورة مصغَّرة لما يجري من حروب خفية، تتخذ الواقع الافتراضي ساحة لها. حروب بين قوى الشر ممثلة في الهاكرز (هنا عبدة الشيطان من خلال علياء) وقوى الخير (جسدتها هنا مصالح الأمن من خلال الخبير الإلكتروني سيف).
علياء، التي يتناقض معنى اسمها مع بشاعة تصرفاتها، تمثل أخطر ما يمكن لإنسان أن يَخْبِره؛ ألا وهو الاستلاب والجري وراء المال الحرام. فبعد أن كانت تظن أنها هي من توظف الحاسوب والأنترنيت لمصلحتها، كان العكس هو الصحيح في الحقيقة؛ فقد احتلت الآلة عقلها ولهت به كيفما شاءت، عبر وساطة عبدة الشيطان.
وعلى هذا الأساس، نلاحظ أن كل مظاهر "السايبير بانك" تحضر في هذا النص؛ فمن كنا نظنه بطلا في الحقيقة هو مجرد شخصية تافهة بدون مبادئ ولا أخلاق، شخصية تعيش على الهامش، في هروب مستمر من الواقع المعيش إلى الفضاء السايبيري. شخصية تقاسي في ظل واقع كابوسي مظلم ومقيت. ومن هنا ينتهز الكاتب الفرصة من أجل انتقاد هذا الفضاء وتأثيراته السلبية على الإنسان. بل إنه يركز على ظاهرة القرصنة الإلكترونية التي تمتص دماء المعوزين وتقتحم خصوصيات الناس بدون احترام لأي وازع أخلاقي. لذلك كان الباحثون قد أكدوا في وقت سابق أن "السايبير بانك" يناقش مظاهر القرصنة، وخاصة تلك التي تكون قادرة على جعل الأنظمة، لاسيما الاقتصادية منها، تنهار؛ وهذا ما كان سيحدث في الرواية، لولا خبرة سيف وكفاءته وذكاؤه البشري الذي تفوق على ذكاء الآلة الاصطناعي.
من جهة أخرى، يمكن أن نعتبر الحاسوب والبرامج المعلومياتية والشبكة العنكبوتية عوامل أساسية فاعلة في السرد في روايات "السايبير بانك"؛ فالرواية ابتدأت بالإدمان على الحاسوب والإبحار في الأنترنيت، وانتهت بالقبض على مجموعة من القراصنة الإلكترونيين الذين ابتكروا برنامجا معلومياتيا عبقريا لتدمير النظام المجتمعي، مرورا بعمليات الدردشة من خلال غرفة افتراضية خاصة.
باختصار، المعلوميات هي عُمْدة هذه الرواية، وقد كان الكاتب مُوفّقا في إبراز إيجابياتها وسلبياتها؛ فهي في نفس الآن داء ودواء، والفرق بينهما يكمن في طريقة الاستعمال والتكوين الأخلاقي لمستعملها وغايته من توظيفها.
وأخيرا...
رغم كل المحاولات التي يبذلها كُتَّاب الخيال العلمي العربي من أجل ترسيخ هذا الأدب ضمن العادات القرائية للعرب؛ إلا أن الطريق لا يزال في بدايته؛ فما بالك بالنسبة إلى بعض أنواع الخيال العلمي التي تتطلب حدًا أدنى من المعرفة العلمية والتكنولوجية كـ "السايبير بانك" مثلا. غير أن الجيل العربي الجديد من كُتَّاب الخيال العلمي نهجوا هذا السبيل رغبة منهم في تقريب المتلقي العربي من خبايا هذه العوالم التي تجري فيها أمور لا نعلم عنها شيئا البتة.
هوامش وإحالات:
1 - د. أحمد خالد توفيق، خيال علمي عربي... هل هو خيال علمي؟، مجلة العربي، العدد 624، نونبر، 2010.
2- لمزيد من التوسع في هذا الموضوع، المرجو العودة إلى الكتاب الهام: الخيال العلمي (مقدمة قصيرة جدا)، ديفيد سيد، ترجمة: نيفين عبد الرؤوف، مراجعة: هبة عبد المولى أحمد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى، 2016.
3- رغم وجود اتجاه نقدي عربي يرى في كل من ألف ليلة وليلة، وحي بن يقظان لـ "ابن طفيل"، ورسالة التوابع والزوابع لـ "ابن شهيد الأندلسي"، ورسالة الغفران لـ "أبي علاء المعري" إرهاصات أولى لأدب الخيال العلمي العربي؛ إلا أننا لن نناقش هذا الموضوع الآن، حتى لا نخرج عن غاية موضوعنا هذا.
4 - رشا عبد الفتاح جليس، الخيال العلمي بين محددات النوع وإكراهات سياق التلقي، العدد 19، شتاء 2017، ص: 113
5 - علاء الدين طعيمة، أنامل الشيطان، دار البراء للنشر والتوزيع، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية.
مجلة فن السرد
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا